اللغة واللسان والكلام عند فردناند دي سوسير

اللغة واللسان والكلام عند فردناند دي سوسير

المؤلف: رشيد الاركو المصدر: الألوكة التاريخ : 14/01/2020 المشاهدات : 587

المحتوى


اللغة واللسان والكلام عند فردناند دي سوسير

لقد فرَّق دي سوسير بين ثلاثة مصطلحات أساسية في الدرس اللسانيِّ، وهذا التفريق يعد قيمة جديدة في البحث اللساني الحديث، وتلك المصطلحات هي: اللغة، واللسان، والكلام.

 

اللغة:

قبل التطرُّق إلى مفهوم اللغة عند دي سوسير، لا بأس من الإلمام ببعض التعريفات السابقة على تعريف دي سوسير، ومن أشهر التعريفات ما يلي:

• يقول ابن جني (ت 391 هـ) عن اللغة: إنها "أصوات يعبِّر بها كلُّ قوم عن أغراضهم"[1].

 

ونستشف من هذا التعريف ما يلي:

1- ذكر ابن جني في تعريفه الطبيعة الصوتية للغة بقوله: "حد اللغة أصوات".

2- ذكر أن وظيفة اللغة الأساسية هي الاتصال من أجل تحقيق الحاجات والأغراض.

3- ذكر أن لكلِّ قومٍ لغةً تخصهم.

4- ذكر أن اللغة ظاهرة اجتماعية، فهو إذًا يلغي فردية اللغة.

 

• أما ابن خلدون - صاحب المقدِّمة - فيقولُ في حدِّ اللغة: إن "اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلِّم عن مقصوده، وتلك العبارة فعلٌ لسانيٌّ ناشئ عن القصد بإفادة الكلام، فلا بد أن تصير ملَكة متقررة في العضو الفاعل لها، وهو اللسان، وهو في كلِّ أمة بحسب اصطلاحاتهم"[2].

 

نستنتج من تعريف ابن خلدون ما يلي:

1- وظَّفَ ابن خلدون كلمة "عبارة" ليشير إلى الجانب الوظيفيِّ للغة؛ أي: إنه اعتبر اللغة وسيلةً لإيصال ما يقصد المتكلِّم.

2- قصد ابن خلدون بعبارة "بحسب اصطلاحاتهم" أن لكلِّ قوم لغةً خاصةً بهم.

3- اللغة ظاهرة اجتماعية عند ابن خلدون، وهذا واضح في العبارة: "وهو في كلِّ أمة بحسب اصطلاحاتهم".

 

• وبعد هذه الفسحة في التراث العربيِّ القديم، نصل إلى تعريف فردناند دي سوسير للغة، يقول: إنها "نظام من الرموز الصوتية الاصطلاحية في أذهان الجماعة اللغوية، تحقِّق التواصلَ بينهم، ويكتسبها الفرد سماعًا من جماعته"[3].

 

يوجد في التعريف أعلاه عدة مصطلحات، من الضروري الوقوف عندها، ومن بين هذه المصطلحات:

1- النظام:

في البداية يجب علينا أن نشير إلى شيء مهم، فمعروفٌ لدى الباحثين أن مؤسس البنيوية هو دي سوسير - وهو كذلك - إلا أنه في محاضراته لم يستعمل قطُّ كلمة (بنية)؛ وإنما استخدم كلمة (نسق) و(نظام)، إلا أن الفضل الأكبر في بروز المنهج البنيوي في دراسة الظواهر اللغوية يرجع إليه، وكلُّ الباحثين يقولون بهذا، وكما هو ظاهر من تعريف دي سوسير أعلاه، فقد بدأ تعريفه للغة بقوله: "إنها نظام من العلامات"، وفي نظر دي سوسير: "إن اللغة تعتبر نظامًا مجردًا من العلامات، ويتأسس هذا النظام على العلاقات التي ترتبط بها العلامات لتشكل نظامًا أو بنية، وهي علاقات يشترك فيها كلُّ أعضاء الجماعة اللغوية، وتمثل المخزون الذهنيَّ لهم"[4].

 

نستنتج مما قاله دي سوسير في تعريفه للغة ما يلي:

1- أن اللغة نظام تجب دراسته على هذا الأساس - باعتباره نظامًا - وبالنظر إلى أجزاء هذا النظام، يقول دي سوسير في هذا الصدد: إن قيمة "الكل هي في أجزائه، كما أن قيمة الأجزاء تأتي في مكانتها في هذا الكل وذاك؛ ولهذا فإن أهمية العلاقة التركيبية بين الجزء والكل أهميتُها بين الأجزاء وفيما بينها"[5].

 

2- يعد دي سوسير اللغة ظاهرةً اجتماعية، تُستخدم لتحقيق التفاهم (الاتصال) بين الناس.

 

ولا بد من الإشارة إلى أن دي سوسير يُعدُّ أول من أدرك أن اللغة نظام له قواعد خاصة، وهذا النظام في نظره يقوم على أساس اتفاق اصطلاحي، وقد انطلق كما أشرنا في البداية من التمييز بين ثلاثة مفاهيم في دراسة اللغة، وهي: اللغة، واللسان، والكلام.

 

فاللغة عنده ظاهرة عامة يتفرَّد بها الإنسان عن سائر الكائنات، "إنها ملكة التعبير برموز ناطقة"[6]، يقول: "فإن نظرنا إلى اللغة في شموليتها وكليتها، نجدها متعددة متباينة الأجناس"[7]، فهي تتكوَّن من مسائل غير متجانسة: مسائل نفسية، مسائل فيزيولوجية، مسائل اجتماعية، مسائل فيزيائية... إلخ، هذا ما جعله يحكم عليها بأنها لا تصلح أن تكون موضوعًا للسانيات؛ "لأنها لا تمثِّل واقعة اجتماعية خالصة؛ حيث إنها تخصُّ الفرد وتخص الجماعة"[8]؛ أي إنها لا تشتمل على وحدة الموضوع، الذي هو شرط مهم في علمية أيِّ علم.

 

أما بخصوص اللسان، فيقول دي سوسير مجيبًا عن السؤال: ما هو اللسان؟ فيما يخصنا، فإننا نفرق بين اللسان la langue، وبين اللغة la langage، فليس اللسانُ إلا جزءًا محدودًا من اللغة، وهو جزء أساس لا شك فيه، وبهذا الاعتبار يكون اللسان في الوقت نفسه إنتاجًا مجتمعيًّا حادثًا عن ملكة اللغة، وعن أنواع التواطؤ، والاتفاقات الضرورية التي أقرها المجتمع وسنَّها؛ لكي تتأتى ممارسة هذه الملكة عند الأفراد[9].

 

واللسان يُقصد به لغة معيَّنة؛ كالعربية، والألمانية، والفرنسية، والتركية، والإنجليزية... وغيرها من الألسنة، فاللسان la langue ظاهرة اجتماعية تعم جميع الأفراد المنتمين تحت جناح أسرة لسانية واحدة، إنه شبيه بمعجم توجد منه نسخ في الأدمغة وأفراد المجتمع[10].

 

من مميزات اللسان التي نجدُها في تعريف دي سوسير أعلاه ما يلي:

1- اللسان جزء من اللغة.

2- اللسان متجانس في ذاته.

3- اللسان ظاهرة اجتماعية.

4- اللسان يمكن أن يبحث مستقلًّا عن الكلام.

5- كلُّ ما يتعلق باللسان يمكن تحديده.

لهذا كله جعل سوسير اللسانَ هو موضوع اللسانيات.

أما الكلام parole، فهو كلُّ ما يلفظه أفراد المجتمع المعين؛ أي: ما يختارونه من مفردات وتراكيب ناتجة عما تقوم به أعضاء النطق[11]، بالاعتماد على المعرفة المشتركة لدى الجماعة اللغوية المعينة، وشرط الكلام هو وجود متكلم ومستمع؛ إذًا فالكلام إنجاز فردي ملموس لقواعد اللغة، و"الفردي يقوم على عنصر الاختيار، وعنصر الاختيار لا يمكن التنبؤ به، وما لا يمكن التنبؤ به لا يمكن دراسته دراسة علمية"[12].

 

خلاصة القول: لقد ميَّز دي سوسير بين ما هو ملَكة بشرية (اللغة)، وما هو تواضع اجتماعي (اللسان)، وما هو إنجاز فردي ملموس بوعيٍ واختيار (الكلام)، وهو تمييز بين ما هو اجتماعيٌّ وفردي، وما هو جوهريٌّ وثانوي.

[1] ابن جني، الخصائص، تحقيق علي النجار، مطبعة دار الكتب المصرية، 1952- ج 1 - ص 33. 

 [2] ابن خلدون، المقدمة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1993، ج 2 - ص 295. 

 [3] De Saussure: Cours in linguistics général pp 7 - 150. [4] مقالة "اللسانيات البنيوية" من الموقع الإلكتروني: مدونة تخاطب. 

 [5] يوسف غازي، محاضرات في الألسنة عامة، ص149، المؤسسة الجزائرية للطباعة 1986. 

 [6] حسني خاليد، مبادئ اللسانيات المعاصرة قراءة وتقويم، ص25. 

 [7] محاضرات في علم اللسان العام، ترجمة: عبدالقادر قنيني، دار نشر إفريقيا شرق، 2006، ص23. 

 [8] مدكور عاطف، علم اللغة بين التراث والمعاصرة، ص29، 1987، دار الثقافة القاهرة. 

 [9] محاضرات في علم اللسان، عبدالقادر قنيني، ص23. 

 [10] مبادئ اللسانيات المعاصرة: قراءة وتقويم، ص26.

 [11] محمد حسن عبدالعزيز، مدخل إلى علم اللغة، كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، طبعة جديدة منقحة، 1991م، ص200. 

 [12] مدكور عاطف، علم اللغة بين التراث والمعاصرة، ص29، 1987م، دار الثقافة، القاهرة.


التعليقات