العصر العباسي منسوب على الدولة العباسية التي خلفت الدولة الأموية سنة 132هـ وكان أول ملوكها هو أبو العباس السفاح ولم تكن أيامه أيام ازدهار علمي وإنما كانت لتركيز النظام الجديد عن طريق القوة، وان لقبه بالسفاح ليدل على ذلك، ثم خلفه أخوه أبو جعفر المنصور، وكان عالما مهتما بالعلماء وبدأت الحركة العلمية في أيامه تبدو ثم كان بعده المهدي ثم الهادي ثم هارون الرشيد وقد بلغ اعتناؤه بالعلم انه كان لا يسافر إلا ومعه مائة عالم يشاورهم ويهتدي برأيهم، ثم كان الأمين، فالمأمون وهو الملك السابع من الدولة العباسية وقد ولي الخلافة سنة 218هـ ويعتبر أعظم ملك فيها على الإطلاق.
وقد قررنا مرارا أن اللغة لا تسمو إلا بأصحابها وإنها لا تكتسب القوة إلا عن طريقهم ولذلك نرى ان اللغة العربية أيام مجد العرب لم تجد من وصفها بالجمود والانحلال والتقهقر لان القوة كانت بيد العرب.
وحيث أن العرب كانت لهم في صدر الإسلام وفي العصر الأموي وفي العصر العباسي قوة، كانت لغتها تسرع على الشعوب بقوة هائلة، ويتسابق الناس على تعلمها لأنهم يعلمون أن الاطلاع عليها سيقربهم من كراسي الحكم وسيجعل لهم عند المسلمين جاها.
ولما تولى المأمون الخلافة لم يترك التقدم العلمي للمصادفة، بل أسس مدارس خاصة للتعليم واعتنى بالكتب العلمية وأسس خزانة عظمى سماها «دار الحكمة» ويقال أن هاته الخزانة كانت تضم جل الكتب التي الفت باللغات الأجنبية، كاليونانية والفارسية والعبرية والهندية.
ولقد اتصل بملوك الروم فأرسلوا له بعض الكتب وجعل من شروط صلحه مع ميخائيل الثالث ملك البزطيين أن يرسل إليه بعض الكتب النادرة.
ولم يكن هم المأمون هو جمع الكتب، ولكنه كان يرى أن أعظم شيء يمكن أن تثبت به قواعد الدول هو العلم، ورأى أن اللغة العربية كانت تتسع للدراسات الفقهية والأدبية واللغوية، وان العرب كانوا مشهورين بالشعر والفقه والكلام، ولكنهم كانوا في حاجة إلى الرومانيين في الطب ونحوه، ورأى أن الذين يدرسون هاته المواد من العرب يرجعون فيها إلى ما خلفه اليونانيون، لذلك رأى انه لا يهدا له بال إلا إذا ضمت اللغة العربية كل ذلك فجمع علماء يحسنون اللغة العربية واللغات الأجنبية وخصص فريقا لترجمة الكتب الفارسية وفريقا لترجمة الكتب اليونانية وآخرين لترجمة الكتب العبرية والهندسية وأصبحت اللغة العربية ترحب بهاته العلوم ووسعتها جميعها.
وقد عمل المأمون على ترجمة جل ما ألفه أفلاطون وأرسطو وسقراط وجالينوس واوكليد (اقليدش) من اليونان، وعمل على ترجمة جل ما ألفه الفرس من كتب الأدب والفلسفة كما عمل على نقل ما عند الهنود من الكتب في الحساب والنجوم.
وضم حوله جماعة من المترجمين ينتمي أكثرهم إلى المسيحيين، وأسس مدرسة للترجمة أدت اكبر الخدمات على اللغة العربية وإلى العرب أنفسهم.
يقول سيديو Sedillot احد المؤرخين الفرنسيين المولود بباريس سنة 1808 م في كتاب له اسمه خلاصة تاريخ العرب:«إن العباسيين رتبوا خمسة عشر ألف دينار لمدرسة بتعلم بها مجانا ستة آلاف تلميذ من الفقراء والأغنياء، وانشئوا مراكز للتعليم الحر رخصوا الدخول فيها لمن أراد، فانتشرت اللغة العربية في سائر جهات آسيا حتى تكلموا بها بدلا عن لغتهم، واعتاد المأمون ومن اقتدى به بعده حضور الدروس العامة التي يلقيها المدرسون» ويقول أيضا:«أن العباسيين بنوا أرصادا بها آلات عجيبة للاستكشاف الفلكي ومستشفيات يمتحن فيها من أراد أن يوظف عدة امتحانات».
ونحن إذا ما رأينا شهادة هذا المؤرخ الفرنسي فإننا لنعرف ما أدته الدولة العباسية إلى الحضارة العربية من مجد، وقد كان المأمون ينفق بسخاء على ترجمة الكتب بحيث كان يعطي نفقة شهرية تعد بخمسمائة دينار في الشهر لكل مترجم، ومما يحكى أن المأمون كان يعطي لحنين بن اسحق اصغر مترجميه من الذهب زنة ما ينقله من الكتب إلى اللغة العربية مثلا بمثل(*)(1).
ولما نقل العرب هاته العلوم لم يكونوا جامدين بل تصرفوا فيها وشرحوها وحللوها وربطوا بعضها ببعض وبينوا الأسباب لبعض المظاهر الطبيعية كالانعكاس الضوئي مثلا الذي يتجلى في قوس قزح.
وقد اخترع العرب بلغتهم العربية القواعد الأساسية لعلم الجبر حتى أن هاته الكلمة مأخوذة من اسم كتاب ألفه محمد بن موسى الخوارزمي للمأمون اسمه«حساب الجبر والمقابلة» وفر المأمون أمره بتأليف كتاب بأسلوب بسيط يبين فيه طريقة المعادلات الجبرية، كما أنهم قد اشتهروا بالطب والفلسفة حتى أن أبا بكر الرازي (864-932م) لقب بجالينوس العرب لاعتبار مهارته في الطب، وقد استطاع أن يشخص مرض الحصبة والجدري والسل، وهو أول من أشار على وجود الجراثيم قبل أن يقول باستور ذلك بألف سنة، وألف باللغة العربية كتبا متعددة في ذلك وترجمت فيما بعد على اللغة اللاتينية، واشتهر بين العرب أبو نصر محمد الفارابي (260-334هـ 873-950م) الملقب بالمعلم الثاني لأنه سعى إلى التوفيق بين آراء أرسطو وأفلاطون.
ونحن إذا ما تحدثنا عن الحركة العلمية أيام العباسيين وركزنا اتجاهنا في نهضة اللغة العربية من الناحية العلمية دون غيرها لندل على أن لغة العرب لم تكن لغة الأدب فقط، بل هي لغة العلم أيضا، وقد شاهدنا بعد هذا النهوض الموجز أن العرب كانت لهم شخصية قوية في خلق اتجاه علمي جديد كان له اكبر الأثر في توجيه العرب فيما بعد.