اللغة تختزن تجربتنا مع العالم، تصور كيف أدركناه، وكيف أوقعنا الأسماء على المسميات، وكيف صنفناها وبنينا الدلالات، وكيف ربطنا بين الدلالات في شبكات، وكيف ربطنا بين الشبكات الدلالية في أنساق من المفاهيم والتصورات. ولذلك تُعد اللغة الأم جزءا من كيان الذات، ومكونا من أهم مكونات الهوية، لا يمكن تعويضها بغيرها من اللغات.
واللغة ـ بمنظور الأمة ـ وعاء الثقافة والمعارف والعلوم والحضارة؛ تنتشر بقوة الأمة، وتنحسر بضعفها. ولذلك تتنافس الأمم العظمى في التمكين للغاتها في بلدانها، وفي نشرها في العالم مسخرة كل ما أوتيت من قوة سياسية ومالية وبشرية ومادية وتقنية لتحقيق هذا الهدف([1]).
وإذا كنا نؤمن بأننا لسنا أقل شأنا من الأمم، فإننا مدعوون إلى العناية بلغتنا العربية، وقد خُصت بنقل خاتمة الرسالات، عناية تمكن لها في دارها، وتنشرها بين العالمين. ونود ـ بهذه المناسبة ـ أن نشكر للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة مجهوداتها الموصولة خدمة لتحقيق هذا الهدف النبيل.
نروم في هذا البحث الإسهام في تطوير تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها تطويرا ينطلق مما جد في مجال النظر إلى اللغات ومناهج تعليمها، وذلك باعتماد مقاربة وظيفية تواصلية أثبتت كفايتها وجدواها في تعليم لغات أجنبية أخرى. سنقوم أولا بالحديث عن أهم المستجدات التي حصلت في مجال تعليم اللغات عموما، وتعليم اللغات الأجنبية خصوصا؛ ثم نستثمر ذلك ـ ثانيا ـ في التطرق إلى تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها في المستويين النظري والتطبيقي.
ونختم ـ أخيرا ـ بتقديم تصورنا لتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها مع جملة من المقترحات المتعلقة بالموضوع.
كل طفل من أطفال العالم ـ أيا كان جنسه أو لونه- يستطيع في بضعة أعوام أن يعبر بلغة محيطه عن أغراضه وحاجاته الصغيرة، دون أن يكون للوالدين أو من يحل محلهما مجهود أساس في هذا الإنجاز.
وكل طفل حرم من جهاز السمع، يُحرم ـ بالنتيجة - من القدرة على الكلام والتعبير بلغة محيطه عن أغراضه وحاجاته الصغيرة.
وكل طفل يعاني من مشاكل في الجزء الأيسر من دماغه ينعكس ذلك بصفة مباشرة على قدرته على الكلام ويَحُدُّ منها، وقد يعطلها تماما.
ونستطيع أن نستخلص من هذه المعطيات الواقعية الملاحظات العلمية الآتية:
أ) إن الأطفال يكتسبون اللغة بطريقة موحدة.
ب) إنهم يكتسبون اللغة اعتمادا على ذواتهم أساسا.
ج) إنهم يكتسبون لغة المحيط الذي يوجدون فيه.
د) إنهم يكتسبون اللغة في ظرف وجيز جدا إذا ما قورن ذلك بتعلمهم أي معرفة أخرى، كمعرفة الحساب مثلا.
وعلى أساس هذه الملاحظات، أقام اللسانيون عددا من الافتراضات العلمية المتعلقة بتفسير اكتساب اللغة في إطار المقاربة النفسية للظاهرة اللغوية. ومن أهم هذه الافتراضات الافتراضان الهامان الآتيان:
أ) يولد الطفل مزودا بجهاز فطري يمكنه من اكتساب اللغة. ويتحدد دور البيئة اللغوية في تحفيز هذا الجهاز الفطري فقط.
ب) يتكون هذا الجهاز الفطري من مبادئ كلية مشتركة بين بني البشر، وبفضلها يتم اكتساب أي لغة كانت.
وتكمن أهمية هذين الافتراضين في تركيزهما - خلافا لما كان سائدا ـ على فطرية الاكتساب وكلية المبادئ؛ فلطالما حجب دور البيئة اللغوية الدور الأساس للملكة اللغوية الفطرية في عملية اكتساب اللغة، ولطالما حجب تنوع اللغات واختلافها الشديد حقيقة أنها تشترك في مبادئ كلية ترد إليها جميعا، وحقيقة أن ذلك هو ما يفسر إمكان اكتسابها.
كما تكمن أهمية هذين الافتراضين في أنهما يشكلان الأساس المشترك بين النظريات اللسانية التي عُنيت بتفسير اكتساب اللغة رغم ما بينها من اختلاف في المنطلقات.
ومن هذا الاختلاف، الذي له صلة بموضوعنا، ما يتعلق بتحديد مضمون الملكة اللغوية، حيث حصرت في الاتجاه التوليدي في قدرة نحوية تتكون من عدد من المبادئ والقواعد التي تُعنى بتوليد عدد لا نهائي من الجمل السليمة تركيبيا ودلاليا.
في حين عُرفت الملكة اللغوية في الاتجاه الوظيفي بأنها قدرة تواصلية (أو تداولية) تتكون من المبادئ والقواعد المسؤولة عن توليد الجمل السليمة تركيبا ودلاليا، وتلك المسؤولة عن مطابقة تلك الجمل لمختلف الأهداف التواصلية التي تُستعمل من أجلها، وللمقامات التي تُنتج فيها([2]).
وقد أثبتت بعض الأبحاث التجريبية المعنية باكتساب اللغة([3]) أن الطفل لا يكتسب معرفة تمكنه من التمييز بين جمل نحوية وحسب، بل معرفة تمكنه أيضا من التمييز- داخل صنف الجمل النحوية نفسها- بين جمل واردة سياقها وبين جمل غير واردة، وأنه يكتسب قدرة يتمكن بواسطتها من تحديد متى يتكلم، ومع من، وبماذا، وفي أي وقت، وأين، وبأية طريقة... .
فقد لوحظ أن أطفال الشيلي يعرفون أن تكرار السؤال يعني الشتم، وأن أطفال المكسيك يعرفون أنه من غير المناسب اجتماعيا توجيه السؤال بطريقة مباشرة، وأن أطفال البرازيل يعرفون أن إجابة مباشرة عن أول سؤال في الحوار يعني عدم الرغبة في الكلام، وأن إجابة عامة تعني إمكان استمرار الحوار على أن ترد الإجابة المباشرة عن السؤال في المرحلة الموالية.
ويدل كل ذلك على أن الطفل حين يكتسب معرفة جمل لغته يكتسب في الوقت ذاته معرفة كيفيات استعمالها، وتكفيه تجربة كلامية محدودة لتطوير نظرية لغوية عامة يستعملها- كما يستعمل أشكالا أخرى من المعرفة الثقافية- في ممارسة الحياة الاجتماعية وتأويلها ([4]).
فقد أظهرت الأبحاث([5]) أن الطفل يبدأ منذ المرحلة اللغوية التي لا يتجاوز فيها إنتاج علاقة بين كلمتين فقط باستعمال النبر لتعيين المعلومة الجديدة، وأنه يستطيع تكييف ترتيب المعلومات وفقا للأسئلة التي توجه إليه.
كما أظهرت الأبحاث أن أي متكلم عادي بمقدوره أن يتواصل لغويا مع مخاطبه بواسطة اللغة الأجنبية التي يحاول تعلمها حتى لو كان على علم يسير بقواعدها النحوية.
وتدل نتائج هذه الأبحاث وغيرها أن الأطفال يكتسبون المعلومات الدلالية والتداولية قبل اكتسابهم المعلومات النحوية والصرفية، وأن لمتعلمي اللغات الأجنبية القدرة على التعبير عن مضمون الكلام دون سبق معرفتهم بكل القواعد النحوية والصرفية([6]).
لقد اجتهد عدد من الباحثين في تحديد مكونات القدرة التواصلية التي تمكن الطفل من اكتساب اللغة والتواصل بها([7]). وقد أجمعوا على أنها تتجاوز القدرة النحوية إلى قدرات أخرى منها، ما يتعلق بمعرفة قواعد الاستعمال ذات الطابع الاجتماعي الثقافي، ومنها ما يتعلق بمعرفة قواعد الربط بين اللغة وبين المقاصد التداولية المختلفة، ومنها ما يتعلق بمعرفة استراتيجيات التواصل اللغوي وغير اللغوي، إلا أن أهم تحديد قُدم- في حدود علمي- للقدرة التواصلية في إطار مشروع علمي متكامل يستهدف إقامة نموذج تمثيلي لمستعملي اللغة الطبيعية هو التحديد الذي قدمه سيمون ديك في عدد من أعمالــه([8]) مفترضا أنها تتكون من خمس طاقات هي:
1. الطاقة اللغوية التي تمكن مستعمل اللغة الطبيعية من أن ينتج العبارات اللغوية ويؤولها إنتاجا وتأويلا صحيحين مهما اتسمت به هذه العبارات من تعقيد بنيوي، وأيا كانت الأوضاع التواصلية التي تم فيها إنتاجها.
2. الطاقة المعرفية التي تمكن مستعمل اللغة الطبيعية من بناء قاعدة معرفية منظمة، واستعمالها عن طريق صياغة معارفه في صور لغوية مناسبة، وإغنائها عن طريق استخلاص المعلومات من العبارات اللغوية التي يستقبلها.
3. الطاقة المنطقية التي تمكن مستعمل اللغة الطبيعية من استخلاص معلومات جديدة من معلومات قديمة أو معطاة بواسطة إجراء قواعد استدلالية تحكمها مبادئ المنطق الاستنباطي والمنطق الاحتمالي.
4. الطاقة الإدراكية التي تمكن مستعمل اللغة الطبيعية من إدراك العالم الخارجي بواسطة وسائل الإدراك البشري من سمع وبصر ولمس وشم وذوق، واكتساب معارف يستعملها في إنتاج العبارات اللغوية وتأويلها، واستعمال حركات الجسد وتأويلها أثناء عملية التواصل.
5. الطاقة الاجتماعية التي تمكن مستعمل اللغة الطبيعية من إنتاج عبارات لغوية وتأويلها بما يتناسب مع أوضاع المخاطبين الاجتماعية وظروفهم العامة.
وقد تسنى لنا - في بحث سابق - الاستدلال على ورود طاقة سادسة هي الطاقة التخيلية التي عرَّفناها بأنها " الطاقة التي تمكن مستعمل اللغة الطبيعية من اختلاق صور افتراضية تنتمي إلى أحد العوالم الممكنة، ومن بناء وقائع متخيلة تنتمي إلى أحد العوالم الخيالية لتحقيق أهداف تواصلية محددة "([9]).
وبطبيعة الحال، فإن كل طاقة من هذه الطاقات التي تكون القدرة التواصلية تتفاعل مع غيرها تفاعلا محددا يقتضيه إنتاج أو تأويل العبارات اللغوية الواردة في مقامات تواصلية معينة.
وبفضل هذه القدرة التواصلية يتم اكتساب اللغة الأم واكتساب استعمالها. ونفهم من ذلك أن كل طاقة من الطاقات الست التي تكون القدرة التواصلية تقوم بدور محدد في اكتساب اللغة واكتساب استعمالها. والافتراض الذي نتبناه يتمثل في أن تعلم اللغة الأجنبية هو محاكاة لاكتساب اللغة الأم، ويقوم المحيط اللغوي الطبيعي بدور فاعل في تحفيز عمل كل طاقة من تلك الطاقات.
وبما أن المحاكاة لا تطابق الأصل، ولا يمكن أن تطابقه، فإننا نفترض أن ما يجعل تعلم اللغة الأجنبية مختلفا عن اكتساب اللغة الأم هو:
أ) اشتغال المحل.
ب) واصطناع المحيط اللغوي.
ومحتوى هذا الافتراض أن المبادئ الفطرية الموجودة في كل طاقة من الطاقات المكونة للقدرة التواصلية تنشغل باللغة التي احتكت بها أول مرة، وهي اللغة الأم، انشغالا لا تحظى به أية لغة أخرى بعد ذلك. والدليل على ذلك دلائل، منها:
- أن نضوج المتكلم في لغته الأم لا يوازيه نضوجه في أية لغة أجنبية مهما كان إتقانه لها، لذلك يعد المتكلم الفطري حجة في لغته، يؤخذ عنه ولا يؤخذ عن غيره.
- ومنها أن ذاكرة المتكلم لا تتحمل تخزين الكم الهائل من المتغيرات التي تحفل بها اللغات من قبيل المفردات المعجمية لكل لغة، والعادات السمعية والنطقية الخاصة بها، والمواضعات الاجتماعية والثقافية لكل مجموعة لغوية. لذلك فإن المتكلم لا يستطيع أن يتعلم إلا لغات قليلة جدا (لا تتجاوز العشر لغات) بالنظر إلى عدد اللغات الموجودة.
وبنوع ما من التحديد، يمكن القول إن الطاقة الإدراكية هي الطاقة الأولى التي تنشغل بإدراك المعلومات الموجودة في محيط الطفل بواسطة وسائل الإدراك من لمس وشم وسمع وبصر وذوق، ثم تنشغل الطاقة المعرفية بتخزين تلك المعلومات الواردة من الطاقة الإدراكية وتنظيمها، تم تنشغل الطاقة اللغوية بتثبيت القواعد الصوتية والتركيبية والدلالية والتداولية واستعمالها في فهم العبارات اللغوية التي يستقبلها الطفل في مقامات تواصلية معنية.
تم تنشغل الطاقة الاجتماعية بتثبيت القواعد الاجتماعية والثقافية التي تضبط العلاقات بين المتخاطبين.
تم تنشغل الطاقة المنطقية باستخلاص معلومات جديدة انطلاقا من المعلومات المتوافرة، وإغناء القاعدة المعرفية بها.
تم تنشغل الطاقة التخيلية ببناء عوالم ممكنة وأخرى خيالية واستعمالها في إنتاج العبارات اللغوية وفهمها.
ونفترض أن تعلم لغة أجنبية يتطلب تدخل كل هذه الطاقات. ونفترض أن الطاقات التي يتطلب فعل التعلم مجهودا إضافيا منها، بصفة خاصة، هي: الطاقة اللغوية والطاقة الإدراكية والطاقة الاجتماعية. إذ إن كل طاقة من هذه الطاقات تحتاج إلى تثبيت قواعد خاصة باللغة المراد تعلمها وبكيفيات استعمالها.
فمن المعلوم أنه إن كانت اللغات الطبيعية تشترك جميعها في مبادئ كلية، فإن لكل منها قواعد خاصة بها: قواعد لغوية، صوتية وتركيبية مثلا، وقواعد اجتماعية ثقافية خاصة ببعض الاستعمالات، وقواعد خاصة بحركات الجسم وتقاسم فضاء التواصل.
ويُستخلص من ذلك أن تعلم لغة أجنبية لا يقف عند حدود تعلم القواعد النحوية بل يتعداه إلى تعلم كيفيات الاستعمال وفق القواعد الاجتماعية والثقافية الخاصة بتلك اللغة.
وليس ذلك بغريب إذا علمنا أن اكتساب اللغة الأم لا يقف عند حدود اكتساب القواعد النحوية، بل يتعداه إلى اكتساب كيفيات الاستعمال وفق القواعد الاجتماعية والثقافية الخاصة باللغة الأم.
وإذا كان الأمر كما تقدم، فإن تعليم اللغة الأجنبية ينبغي أن يعتمد المقاربة التواصلية ومنهج الإغماس. وأما المقصود بالمقاربة التواصلية فإيلاء الأسبقية أثناء تعليم اللغة الأجنبية للوظيفة التواصلية على القواعد النحوية. وأما المقصود بمنهج الإغماس، فوضع المتعلم في محيط لغوي تعليمي يماثل ـ قدر الإمكان ـ المحيط اللغوي الطبيعي للغة المتعلَّمة([10]).
يندرج تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها في إطار تعليم اللغات الأجنبية عموما، إلا أنه يتميز بخصيصتين: الأولى أنه تعليم موجه للكبار عادة، والثانية أنه تعليم مُوجه لغايات محددة. ومعنى ذلك أن وضع المتعلم وحاجاته في هذا النوع من التعليم يختلف عن وضع المتعلم وحاجاته في تعليم اللغة الأجنبية العام.
ويتجلى هذا الاختلاف أساسا في أن الملكة اللغوية لدى الكبار تكون قد رسخت رسوخا في لغتهم الأم بخلاف ما هو عليه وضع الأطفال؛ حيث عادة ما يتعرضون لتعلم لغة ثانية وملكتهم اللغوية لم يكتمل نُضوجها في لغتهم الأم([11]). ويعني ذلك ـ بالمنظور الوظيفي ـ أن الطاقات الست التي تُكون القدرة التواصلية تَكون قد أتمت نضجها لدى الكبار في لغتهم الأم، ويتطلب عملها في لغة أجنبية مزيدا من الوقت والجهد المركز.
ويتجلى هذا الاختلاف أيضا في أن المقبلين على تعلم اللغة العربية من الكبارعادة ما يُقبلون على هذا التعلم ومسعاهم محدد في غاية معينة. ويمكن تصنيف هذه الغايات أصنافا أربعة:
أ) غاية دينية: وتخص المعنيين بتعلم اللغة العربية بغرض التمكن من قراءة القرآن الكريم والنصوص الدينية الأخرى.
ب) غاية مهنية: وتخص المعنيين بتعلم اللغة العربية باعتبارها أداة للتواصل الشفوي والكتابي في مجالات محددة كمجال الإدارة أو التجارة أو الديبلوماسية أو السياحة أو غيرها.
ج) غاية علمية: وتخص الطلبة المعنيين بتعلم اللغة العربية لدراستها باعتبارها أداة للتواصل الشفوي والكتابي أو باعتبارها موضوعا للبحث اللساني أو غيره.
د) غاية ثقافية: وتخص المعنيين بتعلم اللغة العربية للاطلاع على الحضارة العربية الإسلامية في مظاهرها الثقافية والتاريخية والفنية والسياحية([12]).
فهل يوجد في البرامج المعدة لتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها صدى لما أقرته نتائج الأبحاث الحديثة في مجال تعليم اللغات الأجنبية؟.
وهل تأخذ هذه البرامج في الاعتبار خصوصيات هذا النوع من التعليم؟
وهل ثمة برامج تستجيب لحاجات المقبلين على تعلم اللغة العربية؟
إن ما اطلعنا عليه من هذه البرامج ـ على تفاوت بينها في القيمة ـ لا يسمح بالإجابة بالإيجاب. وليس الهدف هنا تتبع الثغرات وعرضها، بل المقصود هو الإسهام بنصيب في تطوير تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها وتحسين جودته، وليس لذلك حدود.
إذا استندنا إلى ما ذكرناه من نتائج الأبحاث النظرية والتجريبية المعنية باكتساب اللغة وتعلمها، نستطيع أن نبني تصورا علميا واضحا عن تعليم اللغات الأجنبية عموما، وعن تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها خصوصا؛ إذ سنكون مزودين بمعرفة جيدة عن كيفية حدوث اكتساب اللغة الأم، وعلاقة هذا الاكتساب بتعلم لغة أجنبية أو لغات، ومتطلبات هذا التعلم.
وعلى أساس من ذلك، نستطيع أن نضع البرامج المناسبة والكتب المقررة، وأن نختار المناهج والتقنيات التي تتلاءم وتحقيق الغايات المتوخاة من التعلم. أما في غياب الاستناد إلى معطيات علمية واضحة، فمن الصعب تحقيق تعليم ناجح.
لقد تم بيان أن تعلم لغة أجنبية يقتضي تدخل الطاقات التي تُكون القدرة التواصلية. ويتطلب عمل هذه الطاقات احتكاكا باللغة المتعلّمة في محيط لغوي مناسب. وبفعل هذا التحفيز، تقوم كل طاقة بالعمل وفق المبادئ الخاصة بها، وهي المبادئ الفطرية المستقلة عن خصوصيات اللغات الطبيعية؛ ثم تقوم بتثبيت القواعد المرتبطة باللغة المتعلمة. وكل طاقة ـ وهي تعمل بمبادئها الفطرية وتثبت القواعد الخاصة ـ تفعل ذلك متفاعلة مع غيرها من الطاقات المكونة للقدرة التواصلية.
ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا إذا وُضع المتعلم في محيط لغوي يشبه ـ قدر الإمكان ـ المحيط الطبيعي للغة المتعلمة. والمنهج الذي يلبي هذا المطلب هو المنهج التواصلي في التعليم؛ حيث يُعمد إلى دفع المتعلم إلى التواصل باللغة الأجنبية في مقامات مختلفة رغم معرفته البسيطة بالمفردات المعجمية ومعرفته الضئيلة بالقواعد النحوية. ويكون الهدف في هذه المرحلة إشعاره بأنه عضو طبيعي في المحيط اللغوي الجديد، وتكييف عاداته السمعية والنطقية مع متطلبات اللغة الأجنبية، وإدماجه في المجتمع اللغوي الجديد تمهيدا لتعلم القواعد الاجتماعية والثقافية الخاصة باستعمال اللغة المتعلمة.
وتفيد التجربة أن المتعلم يستطيع ـ بفضل هذا المنهج ـ أن يحقق قدرا من التعلم بسرعة مدهشة؛ حيث تنمو معرفته المعجمية، ويتكيف سلوكه اللغوي مع المواضعات الاجتماعية والثقافية الجديدة، ويجتهد في أن يُظهر قدرته على التواصل باللغة المتعلمة في المقامات المختلفة. وهو، إذ يحقق كل هذه النتائج، لا يشعر أنه يبذل مجهودات مضنية. وفي هذه المرحلة يتم التركيز على تحفيز الطاقة الاجتماعية والطاقة الإدراكية والطاقة اللغوية جزئيا. وأما الطاقتان المعرفية والمنطقية فيظهر أنهما تعملان بصورة طبيعية، ولا تحتاجان إلى مجهود مخصوص.
وبعبارة أوضح، يجب أن تُحفز المبادئ الفطرية الكلية في المرحلة الأولى قبل تعلم القواعد الخاصة باللغة المتعلمة. ويتحقق ذلك كلما أُتيح محيط لغوي أقرب ما يكون إلى الوضع الطبيعي، وأُتيح إغماس المتعلم في محيط اللغة المتعلمة.
وفي المرحلة الثانية، يتم تثبيت القواعد الخاصة باللغة المتعلمة وباستعمالها. ويتم استثمار المعطيات اللغوية التي أصبح المتعلم متعودا على إنتاجها وفهمها في تعليم هذه القواعد. وبهذه الطريقة، تصبح القواعد التي يتعلمها المتعلم تفسيرا يفسر له سلوك الظواهر اللغوية، ويجيب عن الأسئلة التي تتولد في ذهن المتعلم وهو يقارن بين لغته الأم وبين اللغة المتعلمة. فبدلا من أن تكون القواعد عبئا ثقيلا على المتعلم، تصبح إجابات عن الأسئلة التي يثيرها، فيُقبل على تعلمها خاصة إذا روعي في صياغتها الوضوح والبساطة مع تجنب إيراد الشواهد الشوارد.
والقواعد الخاصة التي يجري تثبيتها بالتعليم لا تتوقف عند القواعد النحوية، بل تشمل أيضا القواعد التداولية التي تربط بين العبارات اللغوية وبين الأهداف التواصلية، والقواعد الاجتماعية والثقافية الخاصة، وقواعد إدراك حركات الجسم وتقاسم الفضاء أثناء التواصل اللغوي.
وفي المرحلة الثالثة، تراعى الغاية من التعلم؛ فيُخصص لكل غاية برنامج يستجيب لمتطلباتها، إذ إن المتعلم الذي يريد بتعلمه العربية أن يقرأ القرآن الكريم وتفسيره وما ارتبط به من علوم دينية ـ مثلا - يتطلب تعليمه برنامجا يراعي هذه الحاجات المحددة. ويُعد نجاح التعليم رهينا بنجاح المتعلم في تحقيق غرضه من التعليم. ويقتضي ذلك انتقاء جيدا للمعطيات، وترتيبا معقولا للأولويات في التعليم، وتقنيات تتلاءم وطبيعة هذا التعليم.
وكذلك الشأن بالنسبة للغايات الأخرى، مهنية كانت أم علمية أم ثقافية سياحية. وليس من المعقول أو المقبول وضع برنامج واحد موحد لكل المتعلمين دون النظر في الأغراض المختلفة التي يحددونها لتعلمهم.
وموازاة مع العناية بوضع برامج على أساس نتائج الأبحاث النظرية والتجريبية المعنية باكتساب اللغة وتعلمها، وعلى أساس أكفى المناهج، وعلى خصوصيات هذا التعليم المضبوطة، يجب أن تُوجه العناية إلى المشرفين على العملية التعليمية؛ وذلك بتأليف الكتب التي تساعد على استكمال تكوينهم في المجال، وبتدريبهم على استعمال التقنيات التعليمية المناسبة، وغير ذلك.
لقد كان هدفنا أن نبين أن تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها تعليما ناجحا يقتضي الانطلاق من تصورعلمي واضح لعملية التعليم. هذا التصور ـ الذي نتبناه ـ يربط بين التعليم والتعلم والاكتساب، مفترضا أن نظرية اكتساب اللغة هي أساس نظرية تعلم اللغات الأجنبية، وأن التعليم هو مجهود لتقريب التعلم من الاكتساب، بما أن اكتساب اللغة الأم فعل فطري طبيعي، وأن تعلم اللغات الأجنبية فعل صناعي يحاكي الفعل الطبيعي.
وبيّنا أن المقاربة الوظيفية التواصلية أجدى في تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، وأن الحاجة قائمة لوضع برامج تستجيب للمتطلبات العلمية ولحاجات المتعلمين وغاياتهم المتوخاة من التعلم.
(*) كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ جامعة مولاي إسماعيل ـ مكناس.
(1) انظر إلى التنافس الشديد بين أمريكا وإنجلترا وفرنسا في هذا الموضوع.
(2) انظر تشومسكي (1979)، والمتوكل (1989) و(1993)، والبوشيخي (1990) و(1998).
(3) هايمز (1984)، وانظر (البوشيخي 1998).
(4) هايمز(1984).
(5) انظر(ويمان 1976) و(كلين 1981).
(6) انظر(البوشيخي 1990).
(7) نذكر من بين هؤلاء الباحثين هايمز(1984)، وكنال وصويل (1979)، وأبو(1980)، وبارمر(1981) وأبيديتو وريزنبورغ (1987).
([8]) ديك (1989).
([9]) انظر (البوشيخي 1998).
(10) انظر التفاصيل عن منهج الإغماس وتقويمه في العدد الخاص من مجلة: Etudes de linguistique appliquée، عدد 82، سنة1991. وانظر أيضا (شارميون 1993)، وريتشاردز ورودجرز(1988) الطبعة الرابعة.
(11) ولهذا الاختيار مخاطر على أوضاع الأطفال النفسية والإدراكية والمعرفية. انظر الفاسي الــــــفهري (1999) من بين مراجع أخرى، والبوشيخي (2002)، والدنان (1999).
(12) هذا التصنيف للغايات يأخذ به المركز الجامعي لتعليم اللغة العربية وحضارتها الذي نتشرف بإدارة أعماله مع نخبة من الأساتذة المتخصصين، كما يتبنى المركز العمل بالمنهج الوظيفي التواصلي ويجتهد في تطويره.
المراجع العربية :
- -البوشيخي، عزالدين (1990):
النحو الوظيفي وإشكال بناء الأنحاء: رسالة جامعية، مرقونة، كلية الآداب، مكناس، المغرب.
- البوشيخي، عزالدين (1998):
قدرة المتكلم التواصلية وإشكال بناء الأنحاء: أطروحة جامعية، مرقونة، كلية الآداب، مكناس، المغرب.
- البوشيخي، عزالدين (2002):
نحو استثمار اللسانيات في تعليم اللغة العربية في : اللسانيات وتعليم اللغة العربية وتعلمها، سلسلة الندوات، عدد 14، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مكناس، منشورات عكاظ، الرباط.
- الدنان، عبد الله (1999):
دليل نموذج تربوي متكامل لتعليم اللغة العربية الفصحى لأطفال الرياض بالفطرة، النظرية والتطبيق. وثائق معرض الباسل للإبداع والاختراعات السوري الثامن، دمشق، 1999.
- الفاسي الفهري، عبد القادر (1999):
اكتساب اللغة العربية والتعلم اللغوي المتعدد: مجلة أبحاث لسانية، المجلد 4، العدد1-2، ديسمبر1999، منشورات معهد الدراسات والأبحاث للتعريب، الرباط، المغرب.
- المتوكل، أحمد (1989):
اللسانيات الوظيفية، مدخل نظري منشورات عكاظ، الرباط، المغرب.
- المتوكل، أحمد (1993) :
آفاق جديدة في نظرية النحو الوظيفي. مطبعة دارالهلال العربية، الرباط، المغرب.
المراجع الأجنبية :
- Charmion O’ Neil (1993) : Les enfants et l‘enseignement des langues étrangères-
Credif-Hatier 1993.
-Chomsky, N (1979)
A propos des structures cognitives et de leur développement une réponse à Piaget.
- In : Piattelli-Palmarini
>span >
Editions du Seuil, Paris, 1979.
-Dik, S (1989)
The Theory of Functional Grammar,
Part 1 : The structure of the clause.
Foris Puplications, Dordrecht, 1989.
-Hymes, D (1984)
Vers la compétence de la communication
Hatier, Paris, 1984.
-Richards, J And Rodgers,Th (1986)
Approaches and Methods in Language Teaching, a description and analysis.
Cambridge University Press, Cambridge, 1986.