حوافزُ وقواعدُ إسلامية لتعلم اللغة العربية

      درج الباحثون في شؤون اللغة العربية، الغيورون عليها، الحريصون على عزتها ورفعتها وقوتها وانتشارها، على دعوة أبنائها إلى حمايتها من مكايد أعدائها، واستنقاذها من شر أحاط بها ويوشك أن يقضي عليها، حمايةً للهُوية أن تتفتت، وللدين أن تندرس معالمه وتنطمس مفاهيمه وتندثر علومه، وللأمة الإسلامية أن تتهاوى أركانها، أو يستمر تخلفها عن ركب الحضارة وتبعيتها لمن بيده العلم والقوة.

المؤلف: د. عبد الملك بومنجل المصدر: جامعة سطيف - الجزائر التاريخ : 07/04/2020 المشاهدات : 223

المحتوى


مقدمة

      درج الباحثون في شؤون اللغة العربية، الغيورون عليها، الحريصون على عزتها ورفعتها وقوتها وانتشارها، على دعوة أبنائها إلى حمايتها من مكايد أعدائها، واستنقاذها من شر أحاط بها ويوشك أن يقضي عليها، حمايةً للهُوية أن تتفتت، وللدين أن تندرس معالمه وتنطمس مفاهيمه وتندثر علومه، وللأمة الإسلامية أن تتهاوى أركانها، أو يستمر تخلفها عن ركب الحضارة وتبعيتها لمن بيده العلم والقوة.

     ولا نزعم أن هؤلاء الغيورين يخطئون السبيل إذ يرفعون أصواتهم بهذه الدعوة المشفقة المستغيثة؛ فلا شك أن اللغة محتاجة إلى إخلاص أبنائها، وأن قوة الإسلام وعزته ذات صلة وثيقة بقوة لغة القرآن وعزتها، وأن الأمة التي تُستَهدف في أعظم ركنيها لا يستمر لها بقاء، ولا يستقيم لها بناء، ما لم يسلم لها الركنان، وأن هذين لا يسلَمان إلا بحماية من الأمة ذاتها: بمقاومة أبنائها لعوامل الهدم، واجتهادهم في الإخلاص لروح الأمة والإمساك بزمام القوة والعلم.

     وإنما نزعم أن من إعزاز العربية والإسلام أن نصورهما على غير هذا النحو: أن نصور العربَ وغيرَ العرب هم المحتاجين إلى اللغة العربية لا هي المحتاجة إليهم. ونصور المسلمين وغير المسلمين هم المحتاجين إلى الإسلام لتستقيم لهم الحياة ويتم لهم الفلاح، لا هو المحتاج إليهم. ولا نقول ذلك على سبيل المبالغة بل على سبيل الحقيقة؛ فإن الإسلام باقٍ ما بقي الليل والنهار، وإن العربية لحية خالدة ما بقي هذا الكتاب الخالد الذي تكفل الله بحفظه، وهو القرآن. وإن الغرباء عن العربية أنفسهم يعترفون بهذه الحقيقة؛ فهذا (جول فون) يختار للسائحين في قصته الخيالية أن ينقشوا على الصخر بالعربية تذكارَ بلوغهم في رحلتهم أعماقا سحيقة في باطن الأرض. فلما يُسأل عن ذلك يجيب: «إنها لغة المستقبل، ولا شك أنه يموت غيرها، وتبقى حية حتى يرفع القرآن نفسه»250 سنة لم تستطع السيطرة على العربية أو إضعاف مكانها»

     أجل. إن العرب وغير العرب هم المحتاجون إلى اللغة العربية. وإن المسلمين وغير المسلمين هم المحتاجون إلى الإسلام العظيم وكتابه القرآن الكريم. وإن خير موقف يُتَّخذُ بشأن هذين الكنزين العظيمين هو أن يُدعى الناسُ جميعهم إلى التقرب منهما لمعرفتهما حق المعرفة والاستفادة منهما أتم استفادة. هو أن يقف محبُّ العربية إزاء الذين لا يحبونها، أو يتهاونون في طلبها، أو يحسبون أنهم في غنى عنها بما اعتصموا به من اللغات الأخرى، كما وقف نوح عليه السلام مع ابنه المعتصم بالجبل متوهما النجاة من الطوفان: ((يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ)) (هود: 42)

    إنّ اللغاتِ لتغري بالتعلم بقدر ما تقدّم من النفع، وبقدر ما تُحوِج إلى الاستعمال قصد التواصل. وإذا كانت اللغة الانجليزية الآن هي سيدة اللغات من حيث الحاجة العلمية والعملية والاقتصادية إليها، فإن اللغة العربية هي سيدة اللغات بإطلاق، من حيث الحاجة الروحية والدينية والدنيوية كذلك. فلا أقلَّ من أن ننبه الناس على ذلك، وأن نحفّز العرب وغير العرب، من المسلمين خاصة، على تعلم اللغة العربية تعلما يفي بالغرض ويُشبع الحاجة، وأن نقترح عليهم، في سبيل ذلك، القواعد العملية الميسِّرة لهذه العملية التربوية الشاقة، ببعض ما جاء به الإسلام العظيم من المبادئ، وما فاض به القرآن الكريم من الخيرات، وما خبره خبراء التعليم والتربية من التجارب. 

1. حوافز إسلامية لتعلم اللغة العربية

     إن وظيفة اللغة هي التواصل. وقد يصلح أن نقسم التواصل ثلاثةَ أقسام: تواصلا مع الذات شعورا وفكرا؛ ومن هنا تنشأ علاقة اللغة بالتفكير. وتواصلا مع الآخر تعايشا وتثاقفا؛ ومن هنا تنشأ الحاجة إلى تعلم اللغات. وتواصلا مع الله تلقيا ومخاطبة وعبادة، ومن هنا تنشأ الحاجة الماسة إلى تعلم اللغة العربية.

   إن العربية تشترك مع اللغات الحية الكبيرة من حيث الحاجة إلى تعلمها قصد التواصل والتثاقف، ولكنها تنفرد عن جميع اللغات بميزة خاصة خالدة هي كونها لغة التلقي عن الله والاعتقاد فيه والتعبد له. هي اللغة الوحيدة التي نزل بها خطاب الله إلى العالمين كافة ليُعْلمهم اكتمال الدين ويُعلٍّمهم سر الوجود ونظام الحياة. ومن ثم فإنها اللغة الوحيدة التي لا يصح اعتقادٌ ولا تعبدٌ إلا بمعرفة الحد الأدنى من تراكيبها ومعانيها، ثم لا يصح فهمٌ سليمٌ عميقٌ لحقيقة الدين وروحه وشريعته إلا بمعرفة قسطٍ وافر من علومها وأسرارها وبلاغتها. إن اللغات جميعا هي شأن بشري وحسب، ولكن العربية شأن بشري ورباني معا، دنيوي وديني كذلك. ومن هنا كان للإسلام حكمٌ في تعلم العربية، ومدخلٌ في التحفيز على هذا التعلم.

1.1. تعلّمٌ لصحة الاعتقاد والتعبد

      ((إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلاَمُ)) (آل عمران: 19). وإن الكتاب الذي أُنزل ليكون خطابَ الله إلى العالمين هو القرآن. وإن لغة القرآن العظيم والرسول الكريم الذي أنزل عليه هي العربية. أفلا يَنتج عن ذلك أن الإسلام والعربية لا ينفصلان. وأن تعلم العربية، ولو بالحد الأدنى، هو شرطٌ لازم في طريق الإيمان بالدين الحق؟ بلى، إن الأمر كذلك. وقد نص على ذلك العلماء الكبار من أمثال الشافعي حين قال:» فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغَهُ جَهدُه حتى يشهدَ به ألا إله إلا الله وأن محمداً عبدُه ورسولُه ويتلوَ به كتاب الله، وينطقَ بالذكر فيما افتُرض عليه من التكبير وأُمرَ به من التسبيحِ والتشهدِ وغيرِ ذلك.« وابن تيمية حين قال: »إن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب. فإن فهمَ الكتاب والسنة فرض، ولا يُفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.. وهذا معنى ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة: حدّثنا عيسى بن يونس عن ثور عن عمر بن يزيد قال: "كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أما بعد، فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآن؛ فإنه عربي".«[5]

     إنّ على كل مسلم أن يتعلم مقدارا من العربية ينطق به الشهادتين مُدرِكا لمعناهما، ويؤدي به ما هو ركنٌ في الصلاة كتكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة، ويَقدِر به على تلاوة القرآن كلامِ الله الذي يُتقرَّب بتلاوته إليه. فهذا هو الحد الأدنى مما يجب تعلمه من العربية وجوبَ لزوم في بعضها ووجوب استحباب في أخرى. ولكن همّة المسلم ينبغي أن تشرئب إلى ما هو أعلى وأوفى من الحد الأدنى؛ فإن الأمر يتعلق بلغة نزل بها كلام الله تعالى، وتكلم بها خير البشر وأفضل الأنبياء، وأنجزت بها حضارة هي أرقى الحضارات؛ فلا أقل من أن ترتفع الهمة إلى حد الرغبة الجامحة في صحة الفهم عن الله.

2.1. تعلُّمٌ لصحة الفهم عن الله وتذوق كلامه ومناجاته

       إن المسلم المخلص لإسلامه، الحريص على الوفاء بروحه والتزام أحكامه، لا بد أن تتحرك همته إلى فهم كتابهِ القرآنِ واستيعاب مختلف العلوم التي تتصل به. ولا يتأتى له ذلك إلا بتعلم العربية تعلما يزيد عن الحد الأدنى الذي ذكرناه. تعلما يقدر به المتعلم أن يتلوَ كتاب الله مُدركا لمعانيه، متذوقا لدلالاته وبلاغته، متدبرا لمعانيه وعِبَرِه. ويقدر به على فهم مضامينه واستخلاص أحكامه. ويقدر به على نيل قسط من العلوم الشرعية يستقيم بها اعتقادُه وتسلم عبادتُه وتُعينه على النهوض بواجب الدعوة إلى الله على هدى وبصيرة.

     إن الواحد منا قد يتعلم اللغة الأجنبية لا لحاجة سوى أن يقدر بها على قراءة ما أُلِّف بها من أسفار أدبية وعلمية. فكيف إذا تعلق الأمر بالسِّفر الأعظم، والكتاب الأكمل والأجمل، والعلم الأنفع والأوسع: كتاب الله تعالى؟ إنّ بمقدور أيِّ مسلم أن يخاطب الله ويدعوَه ويناجيَه بأيِّ اللغات عرفَ وشاء؛ فإنه الله عليم بكل شيء. ولكن هل بمقدار المسلم، وغير المسلم أيضا، أن يقرأ رسالةَ الله إليه ويفهمَها حقَّ الفهم؛ ليهتديَ بهديها، ويستمتع بجمالها، إلا بأن يتعلم اللغة العربية تعلما يزيد عن الحد الأدنى ليبلغ مبلغ القراءة الواعية والفهم الجيد والتذوق الكافي؟ كلا. ليس بمقدوره ذلك، عربيا كان أم غيرَ عربي، إلا بأن يتعلم من لسان العرب الذي نزل به القرآن جملةً من العلوم، هي اللغة والنحو والبيان والأدب، ذكرها ابن خلدون في مقدمته، ونبّه على أن »معرفتَها ضروريةٌ على أهل الشريعة، إذ مأخذُ الأحكام الشرعية كلِّها من الكتاب والسنة، وهي بلُغة العرب، ونقَلَتُها من الصحابة والتابعين عرب، وشرح مشكلاتها من لغاتهم، فلابد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علمَ الشريعة.«[6] ونصح الشافعي قبله بأن يستزيد المسلم ما استطاع من العلم بها، »لأنه لا يعلمُ من إيضاحِ جُملِ علمِ الكتاب أحدٌ جهلَ سعةَ لسان العرب، وكثرةَ وجوهه، وجماعَ معانيه وتفرقها. ومن علِمه انتفت عنه الشُّبَهُ التي دخلتْ على من جهِل لسانها«[7]، ولأن في هذا العلم إدراكَ »نافلةِ خيرٍ لا يدَعُها إلا من سفِهَ نفسَه، وترَكَ موضعَ حظِّه.«[8] وكذلك فعل معاصِرُه الجاحظ حين قال: »للعرب أمثالٌ واشتقاقاتٌ وأبنيةٌ وموضعُ كلامٍ يدل عندهم على معانيهم وإراداتهم.. فمن لم يعرفها جهلَ تأويلَ الكتابِ والسنة والشاهدِ والمثَل، فإذا نظر في الكلام، وفي ضروبٍ من العلم، وليس هو من أهل هذا الشأن هلكَ وأهلَكَ.«[9]

     أجل. إنّ العربيَّ وغيرَ العربيِّ مُطالَبان، إذا أرادا أن يفهما دينهما حقَّ الفهم، وأن يدعوَا إليه على علمٍ وبصيرة، بأن يأخذا من علوم العربية حدا ينأى بهما عن رتبة الجهلاء وإن لم يُلحقْهما برتبة العلماء. وأنا أذكر العربيَّ هنا لأن كثيرا جدا من العرب مُقصرون في فهم العربية التي نزل بها القرآن وخاطب الله بها عبادَه؛ إما لأنهم أميون لم يتعلموا القراءة والكتابة، وإما لأنهم انقطعوا عن التعلم قبل أن تكتمل لهم الأداة، وإما لأنهم لم يأخذوا علمَ العربية مأخذ الجد، وشوّش على تعلمهم إياها علومٌ أخرى ليست من الضرورة والأهمية بمكان، حتى رأينا منهم الأستاذَ الجامعيَّ المتخصصَ في العربية يشرح لطلبته قول الله تعالى: ((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)) (فاطر: 28) شرحا بالغَ القبح والشناعة؛ إذ فهم الرجلُ من العبارة القرآنية أن فعلَ الخشية يرجع إلى الله، فقال: إن الله يخشى من العلماء لأن أحدَهم قد يصنع قنبلةً ذرية يدمّرُ بها مدينة بأكملها![10] فكيف لا يَهلكُ ويُهلِك من هذا مَبلغُه من العلم بالعربية والعلم بالدين؟

    وإنّ المسلم الحق يحرص على دوام الصلة مع ربه تلذذا بسماعِ خطابه، وتلاوةِ كتابه، وتذوقِ جلالِ مضامينه وجمالِ أسلوبه، والتلطفِ في دعائه ومناجاته؛ خاصة وأن الله قد رتّب الأجرَ العظيم على كل ذلك، حتى إنه ليعطي على تلاوة كل حرف من حروف القرآن حسنة كاملة. فهل يمكن أن يحصلَ ذلك على النحو الأوفى إلا للآخذ من علم العربية بسهم وافر؟ نعم، يمكن أن يخاطب المسلمُ ربَّه دعاءً ومناجاةً بلغةٍ غيرِ العربية. ويمكن أن يُترجَم القرآنُ إلى لغات أخرى فتُقرَّب معانيه إلى أبناء تلك اللغات ويأخذوا بحظهم من فهمه واستيعاب أحكامه. ولكنّ ترجمةَ القرآن غير القرآن العظيم، والكتاب المُتَعبَّد بتلاوته إنما هو القرآن ذاتُه لا ترجمته. وإن دعاء الله والتقرب إليه بالأذكار المأثورة من الكتاب والسنة أولى وأحلى مما هو بغير العربية»أن الإنسان إذا أغفَل علمَ البلاغة وأخلَّ بمعرفة الفصاحة، لم يقعْ علمُه بإعجاز القرآن من جهة ما خصَّه الله به من حسْن التأليف، وبراعة التركيب، وما شحنه به من الإيجاز البديع، والاختصار اللطيف؛ وضمّنه من الحلاوة، وجلَّلَه من رونق الطلاوة، مع سهولة كَلِمِه وجزالتها، وعذوبتها وسلاستها، إلى غير ذلك من محاسنه التي عجز الخلقُ عنها، وتحيّرت عقولُهم فيها.«[12]

3.1. تعلّمٌ لقوة التواصل مع المسلمين وشرف الانتماء إلى العربية

    وإن من الحوافز التي يقدمّها الإسلام في سبيل تعلم العربية أن يعلَم المسلمون من غير العرب، ومن العرب أيضا، أن رابطة الدين تجمع بينهم بقوة، وتدعوهم إلى أن يوثقوا عُرى المودة والتعاطف والتواصل فيما بينهم في الزمان الواحد وفي الأزمنة المتباعدة؛ إذ المسلم ممتد الجذور في تاريخ البشرية، يحمل في قلبه الولاء والحب لكل من عرف الله وآمن به وأخلص له. ومعلوم أن اللغة هي حاملةُ الأفكارِ والمشاعرِ موضوعِ التواصل والتعاطف، وناقلةُ الخصائص الشعورية وأنماط التفكير. فينتج عن ذلك أن من ذاق حقيقة الإسلام أحبّ المسلمين، ومن أحبهم أحب التواصل معهم بمخاطبتهم إن كانوا أحياء وقراءة كتبهم إن كانوا أمواتا، ومن أحبّ ذلك لزمه أن يتعلم العربية بالقدر الذي يمكّنه من الفهم والتذوق، ومن الكلام والقراءة والكتابة. وما أحسنَ قولَ الثعالبي في هذا المعنى: »من أحبَّ الله تعالى أحبَّ رسولَه محمداً صلى الله عليه وسلّم، ومن أحبَّ الرسولَ العربيَّ أحبَّ العرب، ومن أحبَّ العربَ أحبَّ العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجَم والعرَب، ومن أحب العربيةَ عُنِيَ بها، وثابر عليها، وصرف هِمّتَه إليها، ومن هداه الله للإسلام، وشرح صدرَه للإيمان، وآتاه حسنَ سريرةٍ فيه، اعتقد أن محمداً صلى الله عليه وسلّم خيرُ الرُّسُل، والإسلامَ خيرُ المِلل، والعربَ خيرُ الأمم، والعربيةَ خيرُ اللغات والألسنة، والإقبالَ على تفهّمها من الديانة، إذ هي أداةُ العلم، ومفتاحُ التفقُّه في الدين، وسببُ إصلاح المعاش والمعاد... ولو لم يكن في الإحاطة بخصائصها، والوقوف على مجاريها ومصارفها، والتبحر في جلائلها ودقائقها، إلا قوة اليقين في معرفة إعجاز القرآن، وزيادة التبصر في إثبات النبوة التي هي عمدة الإيمان لكفى بهما فضلاً.«[13]

     إن الانتماء إلى العربية شرفٌ أكيدٌ، لا بالنظر إلى جهة العرق ولكن بالنظر إلى جهة الانتماء إلى لغةِ خيرِ الكتب وأفضلِ الأنبياء. ولئن فات هذا الحظُّ كثيرا من الناس فلن يفوتهم الانتماء إلى العربية بطريق آخر وهم في غاية الاطمئنان إلى أنه طريقٌ صحيح مُؤَدٍ إلى مقصودهم لا محالة. إنه طريق الاجتهاد في تعلم اللغة العربية تعلما يمكنهم من التكلم بها والتذوق لها؛ فقد أُثِرَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال: »أما بعد أيها الناس، إن الربَّ واحد، والأبَ واحد، والدينَ واحد، وإن العربيةَ ليست لأحدكم بأبٍ ولا أمّ. إنما هي لسان. فمن تكلّم العربيةَ فهو عربي.« قالها في مقام الدفاع عن صهيب الرومي وسلمان الفارسي وبلال الحبشي

4.1. تعلمٌ للاجتهاد في الدين والتبحر في علومه

      إنّ الإسلام رسالة الله إلى العالم كافة لا العربِ خاصة. وإن واجبَ الدعوة إليه والنصرة له والخدمة لأمته ليس واجبا مقصورا على المسلمين العرب بل هو واجب يعمّ المسلمين جميعا. وإن مَن عظُمَ إخلاصه للإسلام، وعلت همّته في العلم به وتعليمه وتجديد علومه وتوسيعها، لَتشرئبُّ به همته إلى أن يكون عالما من علمائه الكبار، أو مجددا من مجدديه العظام، أو فيلسوفا من فلاسفته العماليق. ولكنه لن يكون كذلك حتى يكون في يده مفتاحه وهو القرآن الكريم، ولن يقدر على استعمال هذا الكتاب واستثمار علومه حتى يكون لديه مفتاحه وهو اللغة العربية. وإن القدر الذي يحتاجه ها هنا من العلم بالعربية لكبير غزير، وإن الوقت الذي يستلزمه هذا القدر من العلم بها والغوص في أسرارها والتعامل معها والإخلاص لها لطويل وفير. لذلك يقل عدد العلماء والمجددين في الدين والعربية من العرب الأصلاء والعرب بالمنشأ والمربى والتعلم والتكلم، ويندر أن يجيء عالم بالدين أو مجدد فيه من غير هاتين الفئتين، بسبب ما ذكرنا من ارتباط فهم الدين بفهم العربية التي نزل بها كتابُه، وتكلم بها رسوله وأصحابُه، وكتب بها ورثةُ العلم وأربابُه، وبسبب اختصاص كل لغة بأسرار في طريق الدلالة ووجوه التصرف. ومن المفيد أن نعيد التذكير بقول الجاحظ في هذا المعنى: «للعرب أمثالٌ واشتقاقاتٌ وأبنيةٌ وموضعُ كلامٍ يدل عندهم على معانيهم وإراداتهم.. فمن لم يعرفها جهلَ تأويلَ الكتابِ والسنة والشاهدِ والمثَل، فإذا نظر في الكلام، وفي ضروبٍ من العلم، وليس هو من أهل هذا الشأن هلكَ وأهلَكَ.«

      إن من حق الإيراني والأفغاني، والهندي والباكستاني، والتركي والإفريقي، والإندونيسي والماليزي، وكل مسلم على وجه المعمورة، أن ترقى همّته إلى أن يكون عالما في الدين مجددا فيه، متفقها في أصوله وفروعه مستنبطا منه ما به علاج مشكلاتِ عصره. وإن ذلك لحافز لأولي العزم والهمة أن يبذلوا في سبيل تعلم العربية الجهد والوقت والمال، وأن يتكبدوا مفارقة الراحة والأهل والأوطان، كما فعل أسلافهم من العرب وغير العرب، فخلفوا لنا هذا التراث العلمي العظيم الذي يُذكر في مقدمة صانعيه سيبويه والفارسي وابن جني والجرجاني والزمخشري والرازي والسكاكي والفارابي والخوارزمي والبخاري ومسلم والنسائي والقزويني، وكلهم من غير العرب في النسب، ولكنهم أكثر عربية من أكثرية العرب أنفسهم في حب العربية وفقهِها وتذوقها والغيرة عليها والإبداع بها وفيها، وفي خدمة القرآن الذي نزل بها والدين الذي اتصل بها وتأسست علومه عليها. أفلا يكون خروج كل هؤلاء العلماء الأفذاذ من غير البلاد العربية محفزا لغير العرب في عصرنا هذا لأنْ يبلغوا من حب العربية مبلغَهم، ومن الاجتهاد في تعلمها وتعليمها قريبا من اجتهادهم، ومن الإبداع بها ولها وفيها بعض إبداعهم الذي أبقى العربية والإسلام عزيزين رفيعين، وأبقى لهم الذكرَ الرفيع في العلماء الأفذاذ المُجِدّين؟

2. قواعدُ عملية في تعليم اللغة العربية

     ولسائل أن يسأل: أنّى يكون ذلك، والحالُ غيرُ الحالِ، والزمانُ غيرُ الزمانِ، والأمةُ غيرُ الأمة، والعربية غير العربية؟ وحقَّ له أن يسألَ فيُنزِلنا من سماء المثال إلى حضيض الواقع؛ فالأمةُ اليومَ ليست كتلك الأمة التي أنجبت سيبويه والجرجاني والبخاري والزمخشري. والعربيةُ اليوم ليست في حال العربية التي نزل بها القرآن الكريم، ونُظم بها الشعرُ البليغ، وكُتب بها التراث الأدبي والعلمي الزاخر المستنير. إن الأمةَ اليوم مُفرَّقَةُ الأوصالِ ضعيفةُ الحال ساقطة الهمّة. وإن العربيةَ اليوم عربياتٌ كثيرة لا تكاد توافق عربيةَ القرآن الكريم والتراث الأدبي والعلمي العظيم، بما هيمن على لغة الخطاب اليومي والفني والإعلامي من الدارج الذي يخص كل قطر بدارجته، وبما هيمن على لغة المثقفين والباحثين والكتاب أنفسهم من اللحن والهُجْنة والركاكة، لقلة الزاد ومزاحمة اللغات والآداب الأجنبية. إن العلماء الذين أنجبتهم الأمة زمنَ قوّتِها شربوا العربيةَ ماء زلالا من معين القرآن المعجِز العظيم، ورضعوها لبناً لم يتغير طعمه من ثدي عربيٍّ صميم. وأما اليومَ فالقرآن مهجورٌ أو يكاد في حياة المتعلمين اليومية وفي مقررات التعليم، وعلومُ العربية لا يكاد يستقيم لها ساق لدى المتعلم حتى تُزاح من المقرر ويحلّ محلَّها علومٌ ومذاهبُ ومناهجُ لا تكاد تُحرّكَ ساكنا أو تُسمن من جوع. وهاك صورةً ثانية لأستاذ جامعي يزعم التخصصَ في الأسلوبية والتأويل، يُخيَّلُ لغير النبيه حين يتدثّر برداء (دريدا) و(فوكو) و(بارت) أنه الباحث المقتدر والأستاذ المبرّز، حتى إذا قرأ قوله تعالى: (( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ)) (إبراهيم: 48) قرأ (السموات) بالجرّ كما لو أنها معطوفة على الأرض الثانية لا الأولى المرفوعة[16]؛ ولو أخذ هذا حظَّه من القرآن الكريم والبلاغة العربية لما وقع منه هذا الخطأ الشنيع.

    مثالٌ كانَ ونُؤمنُ أنّ بالإمكانِ أنْ يعودَ كما كان. وواقعٌ هانَ واستكانَ، ونأملُ، ثم نعملُ، أن نُزيلَ عنه الهوانَ قدرَ الإمكان. لذلك لا نرى محالا أن يكون الحافز الرابع جديرا بأن يُحرِّك همّة محبي الإسلام والعربية من غير العرب، ومن العرب أيضا، لتزدادَ مثابرتهم على الإحاطة بالعربية والتبحر فيها. فإن لم يكن ذلك فلا أقلَّ من أن تكون الحوافز الثلاثة الأولى دافعةً إلى الأخذ بحظ وافر من علوم العربية ومهارات قراءتها وكتابتها وسماعها والكلام بها. ولأنّا نصدّق قول مالك بن أنَس المشهور: "لا يَصلح آخرُ هذه الأمة إلا بما صلح به أوّلُها"، فإننا سنستنبط من مبادئ الإسلام، وآثار القرآن، وتجارب المخلصين، ما لعله يُيَسِّر طريق النجاح لمن أحب أن يتكلم العربية بإتقان.

1.2. القرآن مثال العربية ومفتاح العلوم

     من شاء أن يتعلّم أيَّ لغة فليأخذها من أصولها الأولى ونماذجها العليا؛ فإنه يأخذها نقية من اللحن، سليمة من الهجنة، صافية من الكدر. وما من شك أن القرآن العظيم هو المثال الأعلى للغة العربية، والأنموذج الأصفى للفصاحة والبلاغة. ويلحَقه بعد ذلك أحاديثُ النبي صلى الله عليه وسلّم، وأقوال البلغاء الأوائل من الخطباء والشعراء والأدباء. فينجم عن ذلك أن من أراد تعلّم اللغة العربية تعيّنَ عليه، إن رغب في كفاية التعلّم وسرعته وسلامته من الاختلال، أن يتخذ القرآنَ الكريم كتابَه الأولَ ومرجعَه الأعلى؛ فيكثِر من الإقبال عليه قراءة وحفظا وتعلّما لأحكام تجويده، ويُثابر على النظر فيه والتدبر لمعانيه والتذوق لأساليبه، حتى يستقيم له أداءُ أصوات العربية على حقها، وفهمُ تراكيبها وطريق دلالتها على وجهها، وتعلّمُ أساليبها وضروب تعبيرها على مقتضى نحوها وبلاغتها، وكي يتمرّن لسانه على سلامة النطق بإخراج الحروف من مخارجها، وعلى فصاحة التعبير باختيار الألفاظ المناسبة والعبارات الجزلة السلسة، وعلى بلاغة البيان بنظم المعاني وفق النمط العربي الأصيل تركيبا وتصويرا.

     إنّ كلَّ قاصد أن يتعلم العربية خيرَ تعلم، عربيَّ النشأة كان أم غيرَ عربي، لا يجد طريقا أيسرَ وأجدى من طريق الملازمة للقرآن الكريم حفظا وتلاوة ومدارسة. نقول ذلك إجمالا ونحن نعلم أنّ تفاعلَ غير العربي مع القرآن غيرُ تفاعل العربي، وتفاعلَ الطفل الصغير غيرُ تفاعل الشاب أو الكهل. وأن مدى الاستفادة من هذه الملازمة متفاوت بين هذا وذلك. ولكنّ المضمونَ حتما أن هؤلاء جميعا سيأخذون عربيةً فصيحة بليغة راقية متينة، وستتمرنُ ألسنتُهم على النطق الصحيح والأسلوب المستقيم، وتتشربُ قلوبهم المعاني السامية والقيمَ النبيلة. وقد دلّت التجارب الكثيرة والأحوال المشهودة على أن الذين حفظوا القرآن أو جزءا منه، وداوموا على تلاوته خاصة في زمن الطفولة والشباب، يمتلكون طلاقةً في التكلم، وسلامة في اللغة، وبلاغة في التعبير، لا يخطئها السامع أو القارئ. ويظل أكثرهم بمنأى عن الأخطاء الشائعة في كلام المعاصرين وكتاباتهم. بينما يظهر في لغة المحرومين من بلاغة القرآن وبركته، المنحرفةِ مطالعاتُهم إلى جهة الكتب الأجنبية أو المترجمة، ترجمةً ركيكة، إلى العربية، أو التي كتبَها باحثون عرب حُرموا الفصاحة والبلاغة، كما هو الحال في أكثر ما يكتبه الباحثون والدارسون والنقاد في هذا الزمن العربي الردئ، يظهر في لغتهم اللحنُ والعِوج والركاكة والالتواء، ويظهر في كلامهم، إذا تكلموا، التلعثمُ والعيّ والاضطراب إلى حد الإزعاج. وكفى بذلك دليلا على فضل القرآن الكبير في تعلم العربية، كما كان له الفضل العظيم في حمايتها وبلاغتها ورفعتها وانتشارها في أطراف المعمورة.

     ولا نقصد من هذا الكلام أنّ على طالب تعلم العربية وبلاغتِها أن يقتصر تعامله على القرآن الكريم، بل نقصد أنّ عليه أن يعطيَه الحظَّ الأوفرَ والأولويةَ المركزية، ثم له بعد ذلك أن يُدعّمه بما هو قريبٌ من جنسه من حيثُ أصالةُ العربيةِ وبلاغةُ البيانِ ورقيُّ المضامين، كما هو الشأنُ في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وخطبِ البلغاء ودواوين الشعراء الأفذاذ، وعيون الرسائل والمقالات قديمِها والحديث. ولابن خلدون حديثٌ قيّمٌ في هذا الشأن؛ فقد ذكر طرقَ الأقاليم الإسلامية في تعليم القرآن للولدان وما ينشأ عن ذلك التعليم من الملَكات، فظهر أن هذه الأقاليمَ جميعَها (المغرب والأندلس وأفريقية والمشرق) كانت تجعل القرآن الكريم أصلا في التعليم لا ينافَس ولا يُزاحَم، وقد يُزادُ على تعليمه للولدان علومٌ أخرى ذاتُ صلةٍ كالحديث ورواية الشعر ومعرفة قوانين العربية وحفظها وتجويد الخط

    «فأما أهل أفريقيّةَ والمغربِ، فأفادَهم الاقتصارُ على القرآن القصورَ عن ملَكةِ اللسان جملةً. وذلك أن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكةٌ لِما أنّ البشرَ مصروفونَ عن الإتيان بمثله، فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء لها. وليس لهم ملكةٌ في غير أساليبه فلا يحصلُ لصاحبه ملكةٌ في اللسان العربيِّ وحظُّه الجمود في العبارات وقلةُ التصرف في الكلام. وربما كان أهلُ أفريقيةَ في ذلك أخفَّ من أهل المغربِ لِما يخلطون في تعليمهم القرآنَ بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه، فيقتدرون على شيءٍ من التصرف ومحاذاة المثل بالمثل. إلا أن ملَكتَهم في ذلك قاصرةٌ عن البلاغة لِما أنّ أكثرَ محفوظهم عباراتُ العلوم النازلة عن البلاغة.. وأمّا أهل الأندلس، فأفادهم التفنّنُ في التعليم وكثرةُ رواية الشعر والترسّل ومُدارسةُ العربية من أول العمر حصولَ ملَكةٍ صاروا بها أعرفَ في اللسان العربي، وقصّروا في سار العلوم لبعدهم عن مدارسة القرآن والحديث الذي هو أصل العلوم وأساسُها. فكانوا لذلك أهلَ حظّ وأدبٍ بارعٍ أو مقصِّرٍ على حسب ما يكون التعليم الثاني من بعد تعليم الصبا.»

     وحاصل ما استنتجه ابن خلدون أن الاقتصار على القرآن الكريم في تعليم الولدان لا يؤدي إلى تحصيل ملَكة اللسان وإدراك البلاغة لبعد أسلوب القرآن عن أن يُحتذى ويُقلَّد. وأن أفضل طرق التعليم هي الجمع بين القرآن ورواية الآداب ومُدارسة العربية كما هي طريقة أهل الأندلس. ثم يذهب إلى أكثر من ذلك، حين يُثني على ما ذهب إليه القاضي أبو بكر بن العربي من تقديم تعليم العربية والشعر على سائر العلوم لِما حصل من فسادِ اللغة. والانتقالِ من العربية إلى الحساب قبل درسِ القرآن ليتيسّرَ على المتعلم فهمه. ومن العيب على أهل البلاد أخذَ الصبيِّ بكتابِ الله في أول عمره بحيث يقرأ ما لا يفهم[19].

     فقد علق ابن خلدون على هذا المذهب بقوله: «وهو لَعَمري مذهبٌ حسنٌ إلا أنّ العوائدَ لا تُساعد عليه، وهي أملكُ بالأحوال. ووجهُ ما اختصت به العوائدُ من تقدّمِ دراسة القرآن إيثاراً للتبرّك والثواب وخشيةَ ما يعرِضُ للولد في جنون الصبا من الآفات والقواطع عن العلم، فيفوته القرآن.»                                                                                                                                                         

    ولعل ابن خلدون مصيبٌ في استنتاجه أن الاقتصار على تعلّم القرآن يورثُ القصورَ عن ملَكةِ اللسان، إذا كان المقصود بها مهارة التصرف في الكلام والبراعة في الكتابة. ولكنّ ذلك لا يعني أن تعلم القرآن لا يفيد الملكة في شيء، ولا يهيّئها لطريق التمكن من المهارات الأربع: السماع والكلام والقراءة والكتابة. كلا، إن التجارب أثبتت أن تعلم القرآن، ولو دون فهمٍ، خاصة إذا سُلِكَ فيه مسلكا متكاملا يقوم على الحفظ والكتابة والتجويد، يذلّل كثيرا من صعوبات التعلم، ويوفِّرُ على المتعلم، خاصةً إذا بادرَ إليه في زمن الطفولة، كثيرا من الجهد في تحصيل تلك المهارات. وإذا كانت لغةُ القرآن وبلاغته بمنأى عن الاحتذاء لبلوغها مرتبة الإعجاز، فإن ذلك لا يعني أنها لغة مُباينةٌ للغةِ العرب موضوعِ التعلّم. إنها اللغة العربية في أصفى مظاهرها وأرقى أحوالها، ومن يُعوِّدُ لسانَه عليها سيكسبُ منها حظا وفيرا من المعرفة بأساليب أداء المعاني: تقديما وتأخيرا، وتعريفا وتنكيرا، وفصلا ووصلا، وذكرا وحذفا، وتصريحا وتلميحا، وتقريرا وتصويرا، وترسّلا وتوقيعا.. فهذه كلُّها مما يعلق بذاكرة حافظ القرآن ومُدارسه والمُداوم على تلاوته وتجويده، حتى إذا بلغ مبلغَ الفهم والقدرة على تأليف الكلام وجدَ ذلك ذخيرةً في لسانه يختار منها ما يشاء، وبحرا في كيانه يغرف منه ما يريد وكيف شاء. وأما أثر تعلّم القرآن في التمرّن على سلامة الأداء الصوتي لحروف العربية فمما لا يحتاج إلى بيان: إن متعلمَ القرآن وحافظَه لا يُعدُّ كذلك بحقّ حتى يقرَأَه قراءةً سليمة ويتلوَه وفقَ أحكام التجويد التي تحرصُ على إخراج الأصوات من مخارجها الصحيحة؛ فمن وُفِّق إلى تعلم القرآن بهذه الطريقة، عربيا كان أم غيرَ عربي، فقد وُفِّق إلى إتقان الأداء الصوتي للعربية، وعوفيَ مما يجدُه المتكلمون بالعربية، عربا وغير عرب، من صعوبة في التمييز بين الظاء والضاد، وبين التاء والطاء، وبين السين والصاد، وبين المفخّم والمرقَّق، وما يقعون فيه من استبدال الجيم الأعجمية بالعربية. وأما الحروف العربية غير الموجودة في لغات أخرى، مثل الحاء والعين والقاف، فإنّ همّة متعلّم القرآن، لعلمه ضرورةَ القراءة الصحيحة لأصواته، ثمّ تيسيرَ الله تعالى وحكمةَ معلّم القرآن، كلُّ هذا كفيلٌ بإعانة غير العربي على تعلّمها وإتقانها.  

      لذلك، لا نرى ابنَ العربي مصيبا في ما ذهبَ إليه من ربط جدوى تعلم القرآن بالفهم. إن تعلّم القرآن، ولو دون فهم، مفيدٌ جدا في تعلم العربية وإعداد المتعلم لامتلاك مهاراتها. والعربي وغير العربي سواء في ذلك ما دام الأمر يتعلق بتقويم الأداء الصوتي وشحن الذاكرة بقوالب التعبير.

      ولا شك أن الفائدة تتعزز برواية الأشعار والخطب ومعرفة قوانين العربية؛ إذ البلاغة البشرية أدعى إلى الاحتذاء والمحاكاة كما ذكر ابن خلدون. ولِتلك الحكمةِ جعل الله الرسلَ بشرا يمكن الاقتداءُ بهم ولم يجعلهم ملائكة. ولكن على أنْ تظلَّ للقرآن أولويتُه المركزية، خاصةً في المراحل العمرية الأولى حيثُ الطاقةُ مُجنَّدةٌ للحفظ وامتلاك اللغة من مجرّد السماع؛ وهو أبو الملكات اللسانية.

     ثم إن تعلّم العربية يكون في الأغلب للحوافز التي ذكرنا في أول البحث. وهو ما يعني أنّ على المعلّم ومن يضعُ مقرَّرات التعليم أن يُراعيَ اختيارَ النصوص ذاتِ المضامين الثقافية المعبِّرة عن الهُوية الإسلامية، والبانية للقيم للإنسانية، والكاشفة عن التراث العربي الإسلامي والخصوصية الإسلامية. ونصوص القرآن في المقام الأول من ذلك. وقد كشفت دراسات غربية أن تعليم الطفلِ العربي القرآنَ الكريمَ هو سرّ صلابته وشجاعته اللتين مكّنتا المسلمين من فتح البلاد المحيطة. قال (جنسر) في كتابه (الإسلام المقاتل): «إن انكلترا وفرنسا قد أجرتا بحوثاً عن أسباب قوة وصلابة الإنسان العربي، وتمكنه من فتح البلاد المحيطة به من الهند إلى تخوم الصين(...) فوجدتا أن السر في ذلك كان طريقة تعليم الطفل العربي، وكيف أنه بدأ قبل الخامسة بحفظ القرآن وختمه، وهو الكتاب الجامع لأفصح التراكيب اللغوية، وأجمل الصيغ البلاغية التي تنطبع في الذاكرة فلا تزول (...).كما يعطيه القرآن طاقة نضالية، وصلابة خلقية وزخماً إيمانياً، وصلةً بالغيب، لا تتخلى عنه طوال عمره، فهو يشعر دائماً أنه ليس وحده، وإنما يوقن أن الله معه.»[21]

     إنّ القرآن الكريم ليس مثالَ العربية وحسب، وإنما عنوان الفضائل ومفتاح العلوم كذلك. إنّ في بحر كلماته المعجِزة جُملةَ ما يحتاجه المتعلّم من قواعد العربية يأخذها وهي تعملُ عملَها وتحيى حياتهَا الطبيعيةَ لا قوانينَ مجرّدة منفصلةً عن وظيفتها التواصلية. وإنّ فيه من أحداث التاريخ وعِبَره ما هو كافٍ لتشكيل ثقافة تاريخية مشتركة بين أبناء المسلمين جميعا، تغرس فيهم وحدةَ الشعور بالانتماء الإسلامي الكبير، ونباهةَ التعامل مع أحداث التاريخ؛ ثم ليتولى كلُّ قطر التعريف بتاريخ بلاده في الوقت المناسب. وإنّ فيه من ضروب الجدل وألوان المحاورة والحجاج ما هو كفيل بتدريب المتعلّم على فن الخطابة والمناظرة والجدل وفق القياس الفطري الطبيعي لا الصوري الأرسطي، كما نبّه على ذلك أبو حامد الغزالي في كتابه (القسطاس المستقيم)[23] أن يكون القرآن وحده محورَ العملية التربوية في المرحلة الابتدائية، ودافع عن هذا الاقتراح بقوله:

    «إنّ الذين تخرّجوا من كتاتيب القرآن في الماضي، والذين يدرسون اليوم في مدارس تحفيظ القرآن لا يُضاهيهم في القدرة اللغوية والكتابية خريجو المدارس الابتدائية بكل تأكيد. فالقراءة الجيدة بدون لحن، والكتابة المضبوطة بدون خطأ، هي سمةٌ لازمةٌ لتلاميذ كتاتيب القرآن. ويتساويان بعدها في القدرة الحسابية، والخبرة التعليمية. (...)

    إن تقسيم المواد إلى تاريخ وجغرافية وعلوم عربية ودين يجب أن يكون في ذهن واضع المنهج وذهن المدرّس، لا في ذهن التلميذ وواقعه. لماذا نُهلك التلميذ بعشر موادّ، وعشرِ وظائفَ، وعشرة دفاترَ، وعشرة مقررات للحفظ؟ أليس هذا من الطرائق التربوية المهترئة؟

    يمكن أن يكون القرآن وحده رفيقَ تلميذ الابتدائية بجانب كراسته وقلمه. حينما تكون الآيات عن الليل والنهار والشمس والقمر يتلقى معلوماتِه الجغرافية. وحينما تكون الآيات عن قصص الأنبياء وقصص السيرة يتلقى معلوماته التاريخية. وحينما تكون الآيات عن الأنعام والنبات وقدرة الله فيها يتلقى معلوماته العلمية. وحينما تكون الآيات عن الصلاة والزكاة والحج والصدق والأمانة يتلقى معلوماته الدينية. أما معلوماته اللغوية فمن خلال الآيات السابقة كلها. أما القدرة اللغوية؛ قدرة القراءة والكتابة: ففي بداية الطريق يتم تعرفه على الحرف وكتابته.. والقدرة الحسابية يمكن أن يُفرَد لها حصة يومية.. القرآن وحده يحقق هذه الأمور جميعا، وهي كلها جزء من أهدافه، ولا نريد مُزاحما للقرآن أبدا مهما كان الكتاب.»

    ولعلّه اقتراحٌ بعيدٌ عن الواقع، صعبٌ على التطبيق، في ظل الهيمنةِ السياسية من جانب الغرب والتبعية الثقافية من جانب العرب. ولكن همّ هذه الورقة هو الطموحُ إلى ما ينبغي أن يكون، وليس التسليمَ بما هو كائن.

2.2. السمع أبو الملَكات اللسانية

      هذه العبارة لابن خلدون[25]، ونحن نعُدُّها قاعدةً إسلامية بالنظر إلى انتماء قائلها، من جهة، وبالنظر إلى مكانة السمع في القرآن الكريم، من جهة ثانية، وبالنظر إلى ما كان يُتَحرى من طالب اللغة العربية الصافية من الإقامة في البادية زمنَ الطفولة، كما حصل لنبينا عليه السلام، من جهة ثالثة.

    إنّ الأصلَ في تعلّم أيِّ لغةٍ هو السماع، كما هو حاصل عند الأطفال في أخذهم اللغةَ عن الأسرة والمحيط بالسماع لا بالتلقين. ولقد بلغ العرب في الجاهلية وفي صدر الإسلام مبلغا عاليا من طلاقة اللسان، وفصاحة الكلام، وبلاغة البيان، وهم أمّةٌ أميةٌ تأخذُ لغتَها بالسماع والرواية والحفظ، لا بالتعلم والمدارسة ومعرفة القواعد. وإنما اضطرّ العرب إلى وضع هذه العلوم والقواعد بسبب عملِ هذه القاعدة نفسها؛ قال ابن خلدون: «فلمّا جاء الإسلامُ وفارقوا الحجازَ لطلبِ المُلْك الذي كان في أيدي الأمم والدول وخالطوا العجَمَ تغيّرت تلك الملَكَةُ بما ألقى إليها السمعُ من المُخالَفات التي لِلمُستعرِبين، والسمعُ أبو الملكات اللسانية ففسدت بما أُلقيَ إليها مما يُغايرها لجنوحها إليه باعتياد السمع.»[26]

     ولمّا كان الأمر كذلك، وجب أن يوضَعَ في الحسبان، من قِبَل طالبي تعلم العربية وواضعي مقرراتِ تدريسها والحريصين على تهيئةِ جوٍّ مناسب لتعلّمها وإتقانها، أن الطريقةَ السائدة في تعليم العربية، القائمةَ على تعليم قواعدها معزولة عن مجال عملها في الكلام، وتقسيمها علوما وفروعا مفصولا بعضُها عن بعض، وعلى حصر الكلام بالعربية الفصيحة في حصة الدرس، وفي أكثر الأحيان في درس العربية تحديدا، وعلى العزوف عن مطالبة المتعلم بحفظ القرآن والشعر ومطالعة عيون الكتب والمقالات الأدبية، وعلى التعجيل بإدخال مقررات دراسية جديدة، تُمليها الرغبة في مواكبة ما يجدُّ في الغرب من المذاهب والمناهج والنظريات، قبل أن تستحكمَ للمتعلم ملَكتُه – أنّ كل ذلك مما يحول دون النجاح المطلوب في تعلم العربية، والكفاية المبتغاة في تعليمها. ولا أدلّ على ذلك من الواقع المزري الذي تعيشهُ العربيةُ على ألسنة أبنائها اليوم.

     غيرُ خافٍ ما يشيع في كلام أهل العربية، متخصصينَ وغير متخصصين، معلِّمينَ ومتعلمين، من اللحن والفساد والعُجمة والركاكة. فما السبيل إلى تعليمٍ يُعيدُ إلينا لغتَنا الجميلةَ المسلوبةَ من بين أيدينا لكيدٍ من أعدائنا وغفلةٍ منا وخيانةٍ من بعض أبنائنا؟

      إن السبيلَ، في رأينا، هو ما اقترحَه ابن خلدون في زمان مُشابِهٍ بعض الشبه لزماننا من حيث دخولُ العُجمة وفسادُ الملَكة، وذلك حين يقول:

      «اعلَمْ أنّ ملَكةَ اللسان المُضَريِّ لهذا العهد قد ذهبتْ وفسدت، ولُغةُ أهل الجيل كلِّهم مُغايِرةٌ للغة مُضَرَ التي نزل بها القرآن. وإنما هي لغةٌ أخرى من امتزاج العُجْمة بها كما قدمناه. إلا أن اللغاتِ لمّا كانت ملَكاتٍ كما مرَّ كان تعلُّمُها ممكنا شأن سائر الملَكات. ووجهُ التعليم لمن يبتغي هذه الملَكةَ ويرومُ تحصيلَها أن يأخذَ نفسَه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن والحديث وكلام السلف ومُخاطَباتِ فحولِ العرب في أسجاعهم وأشعارهم، وكلماتِ المُوَلَّدين أيضا في سائر فنونهم. حتى يتنزّلَ لكثرةِ حفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور منزلةَ من نشأ بينهم ولُقِّنَ العبارة عن المَقاصد منهم. ثم يتصرف بعد ذلك في التعبير عمّا في ضميره على حسب عباراتهم وتأليف كلماتهم وما وعاه وحفِظَه من أساليبهم وترتيب ألفاظهم، فتحصلُ له هذه الملَكةُ بهذا الحفظ والاستعمال ويزدادُ بكثرتها رُسوخا وقوة. (...) وعلى قَدَرِ المحفوظ وكثرةِ الاستعمال تكون جودةُ المصنوع نظما ونثرا. ومن حصل على هذه الملكاتِ فقد حصل على لغة مُضَرَ وهو الناقدُ البصير بالبلاغة فيها. وهكذا ينبغي أن يكون تعلُّمها.»[27]

    هكذا ينبغي أن يكون تعلُّمها، كما قال ابن خلدون. وهكذا، أو قريبا من هذا، يكون تعلّمُها كما تقترح اتجاهاتٌ حديثةٌ في تدريس اللغة العربية. ولتأكيد ذلك أقتبس عددا من الفقرات من كتابٍ بهذا العنوان، تكشف أهميةَ اعتماد النصوص الأدبية أساسا لدراسة فروع اللغة الأخرى، وضرورةَ اختيار النصوص من عيون الأدب لضمان الإقبال على علوم العربية، وأثرَ القراءة الجهرية والمطالعة في تقويم النطق وتنمية مهارات الفهم والكلام والكتابة، وفاعليةَ الطريقة التكاملية في تدريس اللغة وتكوين الشخصية:

     -«إنّ تقسيمَ اللغة العربية إلى فروع هو في الواقع تقسيمٌ مُصطَنَع، هدفُه تيسيرُ تدريسِ هذه المواد ليس إلا. ولكنّ تكريس هذا التقسيم وجعله أمراً واقعاً أدى بالمهتمين باللغة العربية وبطرائق تدريسها إلى أن يقفوا بقوة ضد هذا التقسيم. (...) ودراسةُ هذه الفروع منفصلةً أدت إلى أنّ الطلبةَ أصبحوا يشعرون أن هذه الموادّ تُدرَسُ لِذاتها، وأن تعليم اللغة على هذا النحو لا يتجاوز الكتابَ المقرر، والحصةَ المقررة، وأن استعمالَ كل فرعٍ لا يكون إلا في زمنه الخاص به، فلا يعنى بالنحو إلا في حصة القواعد، ولا يكون التعبير سليماً إلا في حصة التعبير، وعمل على تأكيد ذلك في نفس الطلبة تهاون المعلّم مع الطلبة ومع نفسه في هذا السبيل.»[28]

       -«إنّ الصلةَ القويةَ بين الأدب وفروع اللغة العربية الأخرى تحتم أن يكون اختيار النصوص من عيون الأدب، لأن جودةَ النص المختار تضمن نموَّ الطلبة في القراءة، وإقبالَهم على النحو، وعدمَ نفورهم منه، وإقبالَهم على البلاغة، والنقد، والتعبير، والإملاء، والخط.»[29]

       -«يؤكد علم النفس التربوي المعاصر ضرورة تحقيق التكامل في المنهج، من منطلق مؤداه أن المواد الدراسية المنظّمة والمترابطة يسهل استيعابُها، وأنه

التعليقات