اللغة العربية بحر البحور

اللغة العربية بحر البحور

المؤلف: د. عبدالحميد أحمد ناصر المدري المصدر: الألوكة التاريخ : 14/01/2020 المشاهدات : 235

المحتوى


كثيرًا هي التسميات الرائعة التي تلفتُ الانتباه، فعلى سبيل المثال: وصف الكاتب تشارلز لام (1775 - 1834) الشاعر الإنجليزي إدموند سبنسر (1552 - 1599) "بالشاعر الشاعر" (>span >)؛ أي: "بشاعر الشُّعراء"؛ بمعنى أنَّه أشعر الشُّعراء، والشُّعراء تتعلَّم منه، ووصف الشاعر الرومانسي بي بي شلي (1797 - 1822) رمسيس الثاني في قصيدته السونيتية (Ozymandias) "بمَلِك المُلُوك" (king of kings)، وعلى نحو مماثِل، يمكننا أن نَصف اللغةَ العربية ببحر البُحُور؛ فلو شبَّهنا اللغات بالبحور - أي: إنَّ كل لغة بَحر بذاتها - فاللُّغة العربيَّة هي أعظم هذه البحور، وفعلًا اللغة العربيَّة بحر عظيم، على خلاف البحور، يجد من يَركبه أو مَن يغوص في أعماقه كل ثَمين وسمين.

 

وما لفت انتباهي لهذه التسمية هي جُزئية بسيطة كنتُ أتناولها في بحر اللغة العربية المتلاطم الأمواج، ألا وهي إحدى القواعد النحوية: (النفي)، وما قادني إلى ذلك هو قراءتي للنَّفي (negation) في اللغة الإنجليزيَّة، فقررتُ أن أقرأه أيضًا في اللغة العربية، وعندما غصتُ رأيتُ عجب العُجاب، فازددتُ حبًّا للغتي (لغة الضاد).

 

وبالرغم من أنِّي قد أكون متمكنًا من اللغة الإنجليزيَّة أكثر من اللغة العربية، إلَّا أنَّ هذا لا يمنعني من أن أحنَّ إلى عمقي اللُّغوي العربي وأن أفاخِر به، ولا ألُوم الإمامَ الشافعي حين قال:

أحبُّ الصَّالحين ولستُ منهم

ويكفي اللغة العربيَّة فخرًا وشرفًا أنَّها لغة القرآن والسنَّة المطهَّرة ولغة أهل الجنَّة - جعلَنا الله منهم - ومن الناحية الأخرى، فهذا لا يَجعلني أستنقص من حقِّ اللغة الإنجليزية، أو أي لغة أخرى؛ فاللغة عمومًا - أي لغةٍ كانت - تُعتبر وعاء معرفيًّا يَغرف منه أصحابُه ما يكفيهم لتحقيق أغراض معيَّنة.

 

إنَّ اللغتين العربيَّة والإنجليزية - كباقي اللُّغات الأخرى - تَسخدمان طرقًا مختلفة للنَّفي، بمعنًى آخر: كل لغةٍ لها أدواتها الخاصَّة ونهجها الخاص في إجراء عمليَّة النَّفي، والنَّفي هو إنكار حدوث شيء في الماضي أو الحاضِر أو المستقبل، وعكسه الإيجاب والإثبات.

 

وأودُّ أن أوضح هنا بأنِّي لن أتطرَّق لشرح النَّفي بالتفصيل، ولكن سأَكتفي بما قد يَفي بتوضيح جزالة اللُّغة العربيَّة.

 

يتمُّ تحويل الجملة في اللغة الإنجليزية من حالة الإثبات إلى حالة النَّفي باستخدام عدة أدوات: (not, no, nor, never, neither)، ويمكن القول: إنَّ أكثر أداة يتمُّ استخدامها هي (not)، وتأتي هذه الأداة عادةً بعد أفعال الكينونة (verbs to be)، وأفعال الملكية (verbs to have)، والأفعال الناقصة (modals)، ويمكنها أن تَنفي أيَّ جملة، بغضِّ النظر عن الزمن، وإذا خلَت الجملة من أيِّ فعل من الأفعال الآنفة الذِّكر، فيتمُّ استخدام أفعال العمل (verbs to do) متبوعة بالأداة (not) لنَفي المضارع والماضي، ويقتصر عمل هذه الأداة - عمومًا - على تَغيير معنى الجملة فقط؛ أي: إنَّ أثرها لا يصِل إلى تغيير شكل الجملة.

 

وفي المقابل يتمُّ تحويل الجملة في اللُّغة العربيَّة من حالة الإيجاب إلى حالة النَّفي باستخدام عدَّة أدوات، منها: (ليس، لا، لم، لن، لما، ما، كلا)، ولو أخذنا أداةَ النَّفي (ليس) لرأينا أنَّها تُستخدم في نَفي الجُمَل الاسميَّة، وتتأثَّر بالشخص بحالاته الثلاث (صيغة المتكلم، وصيغة المخاطب، وصيغة الغائب)، وتتأثَّر أيضًا بالعدد والجنس، وقد قام كارن سي ريدنج بعمل جدول توضيحيٍّ لكلِّ حالات ليس، يمكن أن نلخِّصها كالتالي: (لَسْتُ، لَسْنا، لَسْتَ، لَسْتُما، لَسْتُم، لَسْتِ، لَستُنَّ، لَيْسَ، لَيْسا، لَيْسوا، لَيْسَتْ، لَيْستَا، لَسْنَ)[1].

 

أما أدوات النفي الأخرى، فهي كالآتي:

1. (لا النَّافية): تُستخدم في نَفي الجمل الفعليَّة في زمن المضارع والماضي والمستقبل.

• لا يحبُّ الفواكه؛ (مضارع).

• زيدٌ لا يقرأ ولا يكتب؛ (مضارع يفيد المستقبل).

• لا أكلت ولا شربت؛ (ماضٍ).

2. (لا النَّافية للجنس): تفيد نَفي خبرها عن جنس اسمها.

• لا رجل في الدار؛ (أي: إنَّنا نَنفي نفيًا كليًّا وجود جِنس الرجال في الدار).

3. (لم): تُستخدم لنفي المضارع وقلب معناه للماضي: (لم يَكتب).

4. (ما): تُستخدم لنَفي الجمل الاسميَّة والفعليَّة معًا.

• ما وجد الجواب؛ (جملة فعلية في زمن الماضي).

• ما أحد أفضل من أحد؛ (جملة اسمية).

5. (لن): تُستخدم في نَفي المستقبل؛ (لن أنسى).

أضف إلى ذلك: أنَّ النَّفي في اللغة الإنجليزيَّة يقع تحت مسمًّى واحد (negation)، أمَّا بالنسبة للغة العربية، فهناك نفي وهناك نهي، وأداة النَّهي الوحيدة هي (لا)، والنَّهي الحقيقي هو طلَب الكفِّ عن الفعل، والطالب هو الخالِق (الله سبحانه وتعالى)، والمطلوب هو المخلوق (عباد الله)، ويرى "علي الجارم" و"مصطفى أمين" أنَّ صيغة النَّهي قد تخرج "عن معناها الحقيقي إلى معانٍ أخرى تُستفاد من السياق وقرائن الأحوال؛ كالدعاء والالتماس، والتمنِّي والإرشاد، والتوبيخ والتيئيس، والتهديد والتحقير"[2].

 


•﴿ لَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 19]

؛ (نهي حقيقي).

• ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: 286]

؛ (دعاء).

• ﴿ لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ ﴾ [الحجرات: 11]

؛ (توبيخ).

• ﴿ لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التحريم: 7]

؛ (تيئيس).

• لا تَجلس مع أهل الدنية؛ (نصح).

• لا تَسبح في هذا المكان؛ (تحذير).

 

إنَّ أدوات النَّفي في اللغة الإنجليزية لا تغيِّر شكل الكلمات في الجملة - كما أَسلفنا الذِّكر - أمَّا في اللغة العربيَّة، فإنَّ شكل الكلمات قد يتغيَّر وفقًا لنوع الأداة المستخدمة.

• سيَنمو اقتصاد اليمن: (>span >.)

• لن ينمو اقتصاد اليمن: (>span >.)

• لم يَنم اقتصادُ اليمن: (>span >.)

• الطالبان مجتهدان: (>span >.)

• ليس الطالبان مجتهدين: (>span >.)

ويمكن أن نَخلُص إلى أنَّ اللغة العربيَّة ليس كمثلها لغة؛ فهي لغة غنيَّة بمفرداتها، وجميلة في بنائها، دَقيقة في النَّظر، وعميقة في الأثَر، يَحتار فيها كلُّ عالم خرِّيت، فلو أمعنَّا النَّظر - على سبيل المثال - في الأداة (لا)، لرأينا أنَّها تتضمَّن ثلاثةَ أنواع: (لا) النافية و(لا) الناهية و(لا) النَّافية للجنس، وكل واحدةٍ منها لها عملها الخاص بها.

 

وفي المقابل: النَّفي في اللغة الإنجليزية - ببساطة - يتمُّ بوضع (not) بعد أفعال الكينونة وأفعال الملكيَّة وأفعال العمل والأفعال الناقصة، وبالرغم من أنَّ هناك أدوات نفي غير (not)، إلَّا أنَّها لا تَرقى إلى أن تُنافس أدوات النَّفي في اللغة العربيَّة في الدقَّة والمرونة والتشعُّب.

 

من هنا، ألَا تستحقُّ اللغة العربيَّة أن تكون هي لغة التواصل العالمي؟ ألَا تستحقُّ أن تعود إلى دورها الرِّيادي كما كانت في السابق؟ ألا تستحقُّ منَّا أن نحافِظ عليها؟ فها هي الفصحى تتمزَّق، وقلَّما نَجد من يجيدها ويمارِسها في حياته اليوميَّة، وبما أنَّ اللغة هي المِعيار الدقيق للهُويَّة والحفاظ عليها - يعني: الحفاظ على الهُويَّة - إذًا فلنُحافظ على لغتنا؛ كي نُحافظ على هُويَّتنا.

 

ولكن، ولله الحمد، فاللُّغة العربيَّة ستظلُّ محفوظةً وخالدة، مهما استنقص الأعداءُ من شأنها، ومهما تَقاعَسَ عنها أهلُها، فقد وعد الخالقُ عزَّ وجلَّ بحِفظها وصونها، قال تعالى:

﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].

[1] Ryding, Karin C. A Reference Grammar of Modern Standard Arabic. Cambridge: Cambridge UP, 2005. P 642. Print. [2] علي الجارم ومصطفى أمين: "البلاغة الواضحة"، كراتشي: مكتبة البشرى، (2010)، صفحة 173. xzz6ArCLOo9D


التعليقات