وإذا كنا رأينا ما حققته اللغة العربية من نصر في الشرق، فيجب أن نعلم أن العرب بالمغرب والأندلس لم يكونوا خاملين، بل إنهم كانوا يعملون جهد مستطاعهم على أن تكون اللغة العربية هي اللغة السائدة فان عبد الرحمن المأمون الداخل إلى الأندلس والملقب بصقر قد أقام دولة بالأندلس تناهض دولة العباسيين، كما أن المولى إدريس قد أسس بالمغرب الأقصى دولة بالاستعانة بالبربر، وكانت اللغة العربية هي اللغة التي يعمل كل من هذين المؤسسين ليكون هي الرسمية في البلاد إلا أن الدولة الأموية بالأندلس كانت لها من القوة ما هو اشد من دولة الدارسة نظرا للعصبية العربية التي كانت قوية بالأندلس، وقد بلغت هذه الدولة أوج مجدها أيام عبد الرحمن الناصر ما بين سنة 300 و 350هـ.
وانتشرت اللغة العربية في الأندلس أيام الأمويين انتشارا لا مثيل له، حتى قال دوزي في كتاب له اسمه تاريخ مسلمي اسبانيا:«إن اسبانيا المسلمة كادت كلها تقرا وتكتب على حين أن الطبقة الرفيعة من أوربا المسيحية لم تكن كذلك إذا استثنينا رجال الدين».
وعن طريق الأندلس والمغرب انتقلت حضارة العرب إلى أوربا، وعن طريق العرب عرف الأوربيون إشعاع الحضارة واهتدوا إلى المعرفة وانتقلوا من جهالة القرون الوسطى إلى عصر النهضة، ولولا العرب لتأخرت حضارة أوربا قرونا أخر، ولقد شعر الأوربيون حينما اتصلوا بالعرب بأنه يجب عليهم أن يقتدون بهم، وان يطلعوا على علومهم، وان يترجموا كتبهم، وتصبحوا يؤمون الجامعات العربية ليتعلموا وتوجه الفرنسيون ومن جاورهم إلى طليطلة وقرطبة وفاس وغصت جامعة القرويين بالوفود من كل ناحية.
ولقد اشتهرت هاته الجامعات بالمحافظة على اللغة العربية وعلى الثقافة الإسلامية وعلى نشر العلوم العامة فكانت هي الواسطة بين حضارة اليونان القديمة وحضارة أوربا الحديثة.
ولم تعل حضارة العرب إلى أوربا عن طريق الثقافة، بل وصلت كذلك عن طريق الفتح العربي، فالعرب كانوا قد وصلوا إلى اسبانيا واحتلوا صقلية وغزوا فرنسا ووقعت جل مدنها الجنوبية في قبضتهم، فاحتلوا بروفانس وبوردو ومرسيليا وأرنو ووصلوا إلى بواتييه، ولا شك أن هذا الاحتلال اثر على الحضارة الأوربية وعلى لغتها ودخلت عدد من الكلمات العربية إلى لغتهم فنجد مثلا لفظة damasquiner بمعنى رصع أي خلط النحاس ببعض الخطوط الذهبية أو الفضية وذلك بإرجاعها إلى تلك الصنعة الفنية التي اشتهرت بها دمشق، ونجد أيضا كثيرا من الكلمات الدخيلة في لغتهم كلفظة conon قطن magazins مخازن، ولفظة chemise قميص، ولفظة chéque صك، وغير ذلك كثير.
ولم يقتصر العرب في الأندلس والمغرب على الاطلاع على العلوم الرياضية فقط، بل اشتهروا بعلم الجغرافية والتاريخ والرحلات ومن أشهرهم الإدريسي السبتي 1166م (560هـ) الذي ذهب إلى صقلية واتصل بملكها روجر الثاني فألف له كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق في شرح الكرة الأرضية الفضية التي رسمها الشريف الإدريسي باللغة العربية، ورسم في هذا الكتاب إحدى وسبعين خريطة تناقلها الأوربيون وترجموها إلى لغتهم.
وأننا بعد هذه النظرة نجد أن العرب إذا كانوا عملوا ما في جهدهم ليكونوا سادة العالم وان كانوا قد جعلوا من لغتهم لغة تتسع لجميع العلوم والأدب فأنهم أيضا استطاعوا أن يدخلوا إلى أوربا الكتابة الموسيقية فان ما خلفه زرياب الموسيقى في أصول الموسيقى الاسبانية ليعد دليلا على ما كان للعرب من مجد وحضارة.
يقول عمر الدسوقي في احد إعداد مجلة الامالي «فالموسيقى يدين بها الأوربيون للعرب إذ أن آلاتها عربية، فالقيثارة والعود والرباب كل ذلك من اختراع العرب وليس هذا عجيب بل أن النوطة الموسيقية التي اخترعها الخليل بن احمد، وزاد عليها الفارابي والكندي وابن سينات مع ما عرفوه من الموسيقى اليونانية، قد أثرت أثرا كبيرا في الموسيقى الأوربية إذ لم تكن أوربا قبل العرب تعرف العزف الجمعي (اوركسترا) إلى إن دخلت الكتابة الموسيقية العربية».
وأننا إذا ما اطلنا في ذكر الحضارة العربية فلأننا نؤمن بان هاته الحضارة كان للغة العربية اكبر الأثر في تدوينها والعمل على نشرها بدليل الحركة الاستشراقية التي انبثقت من أوربا لتنقل كل ما عندنا إلى الأوربيين وبدليل ما خلفته هاته الحركة من اثر على الاتجاه العلمي في أوربا ما زالت تستغل نتائجه إلى الآن.