بداية لابد أن نعترف أن هناك مشكلة في تعلم اللغات الأجنبية تواجه الكثير من الدول العربية، وأن الطلاب العرب يواجهون صعوبات جمة، حين يجري ابتعاثهم للدراسة في الخارج، وأن الكثير من الجامعات الغربية تتساءل عن المعايير التي جعلت هذا الطالب العربي يحصل على علامات مرتفعة في لغة أجنبية، لا يعرف عنها إلا أقل القليل، الأمر الذي يؤدي إلى تراجع مصداقية شهادات الثانوية العامة العربية، وإلى طول فترة الدراسة في الجامعات الغربية، بل وربما فشل البعض من المتفوقين في الثانوية على متابعة دراستهم في الغرب، بسبب هذا القصور الذي لا يتحمل الطالب وحده مسؤوليته.
لقد ثبت بالتجربة أن تخصيص حصص لتعلم اللغة الأجنبية، بدراسة هذه اللغة محادثة وقراءة وكتابة، والتدريب على القواعد، وإجراء الاختبار تلو الاختبار، لا يحقق النتيجة المثلى، لسبب بسيط جدا هو أن الإطار العام لهذه الدراسة إطار مصطنع، فالنصوص موضوعة لتعلم اللغة الأجنبية فحسب، وليس الهدف منها اكتساب معلومة جديدة. والمحادثة لا يريد المعلم منها التعرف على أفكار الطالب، بل لعله لا يكترث بالموضوع الذي يتحدث فيه الطالب على الإطلاق، لأن كل ما يعنيه هو مدى التزام الطالب بقواعد هذه اللغة، من تصريف الفعل من حيث مطابقته للفاعل، ومراعاة زمن الحدث الذي وقع، ومن حيث هو متعدٍ أم لازم... إلخ. لذلك فإن الاتجاه الذي تنتهجه كثير من المدارس في الغرب، يتمثل في النظر إلى تدريس اللغات الأجنبية في إطار كلي شامل، أي تصبح اللغة جزئية من منظومة، لا فرعًا مبتورًا من شجرة، فيتعلم الطالب مثلاً مادة الأحياء باللغة الأجنبية مع الاستعانة باللغة الأم، أي في إطار من ثنائية اللغة، يتحدث المعلم بالإنجليزية مثلاً مع ذكر المصطلح العربي، بحيث يظل الطالب قادرًا على التحدث بلغته الأم في مختلف مجالات الحياة دون اللجوء إلى المصطلحات الأجنبية، وفي مادة اللغة الإنجليزية تتناول النصوص قضايا ذات علاقة بالأحياء، ويطلب معلم اللغة العربية كتابة موضوع تعبير عن حماية البيئة مثلاً، ويقوم معلم التربية الفنية بحث الطلاب على رسم لوحات ذات علاقة بالبيئة والحياة الفطرية، ويقوم مربي الصف بالخروج مع طلابه لمشاهدة متحف له علاقة بمادة الأحياء، ويراجع معهم المصطلحات العربية والإنجليزية لما يشاهدونه في المتحف...إلخ.
أجمعت دول الاتحاد الأوروبي في اتفاقيتي ماستريخت (عام 1992م) وأمستردام (عام 1997م)، على ضرورة نشر التعددية اللغوية، وتوفير المناهج التعليمية الكفيلة بتحقيق هذا الهدف، مثل زيادة عدد حصص الساعات المخصصة للغات الأجنبية في المدارس، ومراعاة تعلم الطالب الثقافات الأخرى، بحيث يكون تعلمه للغة الأجنبية بوابة للتعرف على الثقافات الأخرى، ورأت بعض دول الاتحاد الأوروبي أن تجعل التبادل الطلابي عنصرًا أساسيا في تعلم اللغة الأجنبية، بحيث يقضي الطالب فترة زمنية لدى نظيره المتحدث بلغة أجنبية، ثم يستضيفه هو الآخر في بلده، ويتم التقارب بين الثقافتين واللغتين، ليتحقق الاندماج الأوروبي انطلاقًا من قاعدة الهرم، أي من المجتمعات الغربية نفسها، وليس من خلال التقاء الطبقة السياسية وحسب.
واعترف مسؤولو التعليم في دولة وراء أخرى، أن أسوأ ما في المناهج التقليدية لتعلم اللغة الأجنبية، هي أن المعلم يبقى هو المهيمن على الحصة، يقف أمام الصف ويمسك بكافة الخيوط بين أصابع يديه، ويبقى الطلاب مستقبلين سلبيين، مع أن المفترض أن يقتصر دور المعلم على إزالة العوائق التي تحول بين الطالب وبين اكتشافه لاستراتيجية التعلم التي تتناسب مع قدراته وشخصيته.
وتوصلت وزارات التعليم الغربية إلى أن العلمية التعليمية لم تعد تعني إعطاء جرعات قليلة من المادة التعليمية على فترات منتظمة، بل تعني توفير استراتيجيات تسعى لحشد كل القدرات الذهنية للطالب، ونزع الخطوط الفاصلة بين مختلف المواد، بل يجري التنسيق بينها في إطار عام كبير، يتعاون كل المعلمين على التكامل فيما بينهم من أجل إقامة علاقة ترابط بين هذه المواد.
واعتبر بعض خبراء التعليم في الغرب أن ثنائية اللغة، أي تدريس المواد العلمية أو الاجتماعية باللغة الأجنبية مع الاستعانة باللغة الأم، يمكن أن تمثل مخرجًا من الوضع الحالي، بشرط عدم النظر إليها باعتبارها نهاية الطريق، أو أنها الأسلوب الأمثل، بل باعتبارها مرحلة لابد من تطويرها باستمرار لتحقيق نتائج أفضل، وأشاروا إلى أن أهم جوانب القصور في هذا النمط من التعليم ثنائي اللغة، هو أن غالبية المعلمين القائمين على تدريس المواد العلمية أو الاجتماعية باللغة الأجنبية، تتوفر لديهم المعرفة العميقة باللغات الأجنبية، وبالمادة العلمية التي يقومون بتدريسها، إلا أنه لا تتاح لهم الفرصة لتعلم طرق التدريس الضرورية لهذا النمط من التعليم، بل يتعلمون من خلال تجاربهم، ولا يستفيدون من تجارب الآخرين في كافة دول الاتحاد الأوروبي، رغم التشابه الكبير بينها.
رغم مرور عشرات السنوات على إدخال ثنائية اللغة في التعليم المدرسي في الغرب، فإنها مازالت تواجه صعوبات كبيرة، من أهمها، ما يلي:
- عدم توفر المناهج الدراسية الملائمة:
فلو تصورنا الطالب السعودي مثلا يدرس منهاج الكيمياء باللغة الإنجليزية، فهو إما أن يدرس منهاج الكيمياء المقرر في المدارس البريطانية، والذي لن يكون مطابقًا للمنهاج السعودي، أو أن تتم ترجمة كتاب الكيمياء المقرر في المدارس السعودية إلى اللغة الإنجليزية، أو أن يحصل الطالب على الكتاب المدرسي المقرر باللغة العربية، ويقوم المعلم بتزويده بقائمة بالمصطلحات العلمية باللغتين الإنجليزية وترجمتها إلى اللغة العربية.
- ندرة الهيئة التدريسية المؤهلة:
يمكن أن يكون المعلم عربيًا درس في جامعة عربية، ولكنه يتقن اللغة الأجنبية، أو ممن درس الكيمياء مثلاً في جامعة أجنبية، أو معلمًا أجنبيًا درس الكيمياء، ولكن لن يكون هناك من درس الطرق التربوية المساعدة على تدريس الكيمياء بأسلوب ثنائية اللغة، يعرف كيف يوازن بين اللغتين في درسه، وكيف يتيح للطالب الفرصة لكي يتعلم المصطلح، وكيفية استخدامه في جملة باللغة الأجنبية، وأن يصل بالطالب إلى المستوى الذي يكون فيه راغبًا وقادًرا على التحاور عن هذه المادة العلمية باللغة الأجنبية.
صعوبة التمويل:
كثير من وزارت التعليم ترحب بشدة بثنائية اللغة، لكنها لا توافق على تخصيص ميزانيات إضافية لهذا الغرض، مما يحول دون إقامة دورات تأهيلية للمعلمين الراغبين في الارتقاء بمؤهلاتهم للمشاركة في هذا النوع من التعليم، وتمويل الدراسات العلمية التي تضع القاعدة النظرية لطرق التدريس بهذا النوع من التعليم، وغير ذلك من الاحتياجات.
- الاعتراف بنتائج الاختبارات وشهادات المدارس ثنائية اللغة:
إذا كانت وزارات التعليم في الدولة الواحدة تشترط في غالبية الأحيان أن تكون الاختبارات النهائية للطلاب بلغتهم الأم، بغض النظر عن اللغة التي درسوا بها المادة العلمية، فما بال الدول الأخرى، هل ستقبل الطالب الحاصل على الثانوية العامة مثلاً من دولة عربية، ولكنه درس المواد العلمية بلغة أجنبية؟ وهل يكون الجهد المضاعف الذي بذله الطالب في دراسة هذه المواد العلمية سببًا في التضييق عليه فيما بعد إذا أراد الالتحاق بالدراسة الجامعية، بدلاً من أن تيسر له دراسته العلمية، بسبب تمكّنه من المصطلحات العلمية بلغة أجنبية.
- تحديد اللغة الأجنبية المستخدمة في التدريس:
في ظل انتشار الابتعاث في دول غير ناطقة باللغة الإنجليزية، يطرح السؤال نفسه عما إذا كان تدريس المواد العلمية بلغة أجنبية، سيقتصر على اللغة الإنجليزية، أم سيشمل لغات مثل الفرنسية والألمانية والهولندية، وعندها تتضاعف الصعوبة التي تجعل فرصة الطالب الوحيدة تقتصر على حلم الالتحاق ببعثة في الدولة التي درس لغتها الأجنبية، الأمر الذي يقتضي التنسيق المبكر والتخطيط قبل سنوات بين مختلف الوزارات، من تربية وتعليم، إلى تعليم عالي.
- الإشراف العلمي:
وهنا أيضًا نعود لعلامات الاستفهام الكثيرة السابقة، هل سيكون الإشراف على يد خبراء أجانب، لهم أجندة خاصة، أم يبقى الإشراف في يد جهات الإشراف على التعليم باللغة الأم، أم على يد المشرفين التربويين من أقسام اللغة الإنجليزية، الذين ليسوا بالضرورة على اطلاع كبير بالمادة العلمية.
- قلاقل داخل الهيئة التدريسية:
من التجارب السابقة في مجال ثنائية اللغة، تبين وجود معارضة من معلمي المواد العلمية باللغة الأم، ومعلمي اللغة الأجنبية، لأنهم يصبحون أقل حظوة من زملائهم، الذين يتقنون اللغة الأجنبية، إلى جانب إتقانهم للمادة العلمية، في الوقت ذاته، كما تأتي المعارضة من معلمي بقية المواد، إذا أدت ثنائية اللغة إلى اقتطاع حصص منهم، لصالح تدريس المواد العلمية باللغة الأجنبية.
سمعت خبراء يدقون أجراس الخطر من ثنائية اللغة، يحذرون من فقدان الهوية، والبعد عن لغة القرآن، ومن احتمالات ركاكة اللغة، التي ستصبح مزجًا من العربية واللغة الأجنبية، ويصبح الطلاب مسخًا من الغرب، يتحدثون بلسانهم، ويحتذون بهم في كافة أنماط حياتهم، وتنتشر الغربة الثقافية بين جيل الآباء والأبناء، ويرون أن تعلم الطلاب للمواد العلمية سيحول دون نشر أبحاث في هذه العلوم باللغة العربية، ويظل العرب مرهونين بالمراجع العلمية الأجنبية، ويصبح مآلهم جميعًا إلى جامعات الغرب، وتتراجع مكانة جامعات بلادهم، وعلمائهم المتحدثين بلغة الضاد.
ولكن حتى الدول الغربية تحرص على الحفاظ على مكانة اللغة الأم، ففي هولندا مثلاً، تنص القوانين التعليمية على أنه رغم أن ثنائية اللغة تعني الاستخدام المكثف والمستمر للغة الإنجليزية كلغة تدريس، فإن الهدف التعليمي المتمثل في تمكن الطالب من استخدام المصطلحات العلمية بلغته الأم، لكي يتمكن من فهم كافة الموضوعات العلمية بلغته الأصلية، يجب أن يتحقق من خلال الطرق التعليمية المناسبة.
كما تفرض تعليمات وزارة التعليم في ولاية هسن الألمانية مثلاً أن يكون تدريس المادة العلمية باللغة الأجنبية فقط في المرحلة المتوسطة، وبداية المرحلة الثانوية، بشرط أن يعود الطالب للدراسة باللغة الأم إلى جانب اللغة الأجنبية، في ختام المرحلة الثانوية.
كما أن هناك دراسات لغوية تشير إلى أنه حتى لو تعلم الطالب المادة العلمية باللغة الأجنبية، فإن رؤيته للعالم تظل منطلقة من لغته الأم، ومن ثقافته الأصلية، وستبقى اللغة الأم المكون الرئيس في تكوين الطالب، وسيظل يقارن ما يتعلمه باللغة الأجنبية بما اكتسبه من معارف سابقة بلغته الأم، ولا يمكن مقارنة ما تعلمه منذ ولادته، بما تعلمه بعد أن ترسخت لديه المفاهيم النابعة من لغته ومن ثقافته. ويشدد خبراء ثنائية اللغة على ضرورة، أن يسعى المعلم باستمرار لتشجيع الطلاب على مقارنة المصطلح الأجنبي بالمصطلح نفسه في اللغة الأم، ومدى الاختلاف أو التشابه بينهما، والتركيبات اللغوية التي يستخدم كل منهما فيه، إلا أن إدماج اللغة الأم في الدروس باللغة الأجنبية، يجب أن لا يتحول إلى آلية لتجنب استخدام اللغة الأجنبية، أو أن تنتقل المحادثة إلى اللغة الأم، استسهالا للأمر، ورغبة في التخفيف من حدة الجهد الذهني المطلوب أن يبذله الطالب.
سألت أحد المعترضين بشدة على قرار البدء بتدريس المواد العلمية باللغات الأجنبية عن سبب رفضه، فقال لي إن الإعلان عن خوض التجربة جاء بصورة ارتجالية، لأن البدء فيها هو مرحلة متقدمة للغاية، لابد أن تسبقها مراحل عديدة.
ينبغي تحديد مواطن الخلل في قضية عدم إتقان اللغة الإنجليزية، فإذا كانت المشكلة مثلاً نفور من الأجنبي، وارتباط هذه اللغة في أذهان الكثيرين بثقافة يبغضها المجتمع، فلن يغير في الأمر كثيرًا أن تكون المادة هي دراسة اللغة الإنجليزية، أو تدريس المواد العلمية باللغة الإنجليزية، أما إذا كان الأمر له علاقة بفشل المناهج في جذب الطلاب، فيمكن إعادة النظر فيها، وإذا كان الأمر يرجع إلى عدم توفر الوسائل التعليمية المناسبة، من معامل لغات، إلى ألعاب تعليمية شيقة على الحاسب الآلي، أو غير ذلك من الصعوبات، فيجب حصرها أولا، بحيث نعرف الداء المطلوب البحث عن دواء له.
كما يجب توفير المناهج، والهيئة التدريسية، والهيئة الإشرافية المؤهلة، وكذلك ضمان الحصول على اعتراف بالاختبارات في المواد العلمية باللغة الأجنبية، ومخاطبة الجامعات في الخارج، لمعرفة المميزات التي تتوفر للطالب الذي يجتهد ويدرس المادة العلمية باللغة الأجنبية، إلى جانب لغته الأم.
وقبل كل هذه الاستعدادات والترتيبات الضرورية، لابد من التخلص من وهم أنه بمجرد خوض تجربة ثنائية اللغة، فإن كل الأمور ستصبح مثالية، وأن كل المشاكل ستزول، لأن ما سيحدث هو أن المشاكل الحالية، ستصبح مشاكل مضاعفة، أكثر تعقيدًا، إضافة إلى أن عدد المشجعين للتجربة سيبدأ ضئيلاً، وعدد المشككين في جدواها كبير.
مشروع ثنائية اللغة خطة طموحة إذا توفرت لها الشروط المثلى، وهو أمر مستحيل في البداية، ولكن مادام الهدف خدمة الجيل الجديد، ومنحه الفرصة ليرى عالمين، وثقافتين، فإن كل جهد يهون في سبيل ذلك، أليس كذلك؟