أعز الإسلام اللغة العربية، فكان انتشاره إيذاناً بانتشارها لغة خطاب بين الناس، وبقيام حضارة عربية إسلامية عريضة. ومنذ ذلك الحين لم تنقطع العربية عن الاستعمال لغة حديث ولغة أدب وتأليف. فقاومت تقلبات الزمان طوال ما يزيد عن ألف وأربعمائة سنة، عاشت بعد سقوط بغداد في أيدي المغول عام 1258م، وعندما قضى الإسبان على إمارة غرناطة عام 1492م لم تضمحل العربية في المغرب.
فالعربية إذن لغة ذات تاريخ طويل, ويبدأ هذا التاريخ في القرن الخامس قبل الميلاد إذا أدخلنا في اعتبارنا النقوش الثمودية والنقوش الشبيهة بها، أو في عام 328م بنقش النمارة. ويستمر تاريخ العربية في خط متصل محافظ لم يقدر مثله إلا لقلة قليلة من لغات العام.
لذا كانت اللغة العربية لغة قوة وإيجاز ودقة ومحافظة، والصفة الأخيرة بوجه خاص أسهمت في حماية اللغة، إذ حدّت من آثار الزمان والمكان.
واللغة العربية من حيث هي لغة سامية، تشترك بالطبع في خصائص اللغات السامية لصلة القربى الوثيقة بينهما وبين تلك اللغات(1) .
وقد كان لدى المستشرقين الكبار في القرن السابع عشر الميلادي ـ أمثال "هوتنجر" Hottinger، و"بوخارت" Buchart، و"كاستل"Castel، ولودولف، صورة واضحة إلى حد ما عن علاقة القرابة الموجودة بين اللغات السامية التي كانت معروفة لهم([2]).ولكن ليس من السهولة بمكان أن نثبت دراجات القرابة الموجودة في كل لغة من اللغات السامية بالنسبة لأخواتها، ويمكن للمرء أن يصل بسهولة في الوصول إلى رأي سريع عن طريق جزئيات المعاجم والقواعد، فكل لغة من اللغات السامية القديمة تتفق مع أخرى عرضا في بعض الخصائص النحوية وتفترق عنها فيما عدا ذلك، كما تفترق عن أخت قريبة فيما اتفقت فيه مع تلك([3]).
أهم ما يميز فصيلة اللغات السامية أنها تعتمد اعتماداً كبيراً على الأصوات الصامتة Consonants لا على الأصوات المتحركة Vowelsويرتبط المعنى الرئيسي للكلمة في ذهن الساميين بالأصوات فيها, أما الأصوات المتحركة فهي لا تعبر في الكلمة إلا عن تحوير هذا المعنى وتعديله([4]).
وإذا نظرنا إلى كلمات مثل : كَتَبَ وكُـتِبَ وكُـتُبْ وكَتَّبَ لأدركنا أن المعنى الأصلي فيها مرتبط بالكاف والتاء والباء، وفي عدد كبير من الكلمات يحمل المعنى ثلاثة أصوات صامتة، ويدخـل عليها إضافات في أولها أو وسطها لتحوير هـذا المعنى وتعديله مثل: أكتب/ انكتب/ اكتتب/ استكتب/ مكتب/ مكتوب/ كاتب.
ولهذا السبب يمتاز الفعل في اللغات السامية بسلسلة من الأوزان المزيدة التي تعبر عن معان مشتقة من المعنى الأساس وتصاغ بتغيير الجذر تغييرات ثابتة للتعبير عن شدة الفعل أو تكراره وعن السببية والمطاوعة والمشاركة في الفعل والبناء للمجهول وغير ذلك([5]).
وللجملة في اللغات السامية تركيب خاص يختلف عن الجملة في أيٍّ من المجموعات اللغوية الأخرى كالاتينية والجرمانية والسلافية، وذلك أنها تعتمد على الفعل اعتماداً كبيراً وتعده عمادها الذي ترتكز عليه في حين لا نجد ذلك في الفارسية أو الهندية مثلاً. فالاسم فيها هو المعول عليه في الجملة.
وفي العبرية والعربية نجد أن الجملة مكونة أساساً من مسند ومسند إليه هما أساسا الجملة، والمسند إليه هو الذي نتحدث عنه في الجملة، والمسند هو الذي نتحدث به عن المسند إليه، والمسند إليه اسم دائماً، والمسند إما اسم أو فعل ([6]).
وتغلب على اللغات السامية الأصوات الحلقية كالعين والحاء والهاء والأصوات المفخمة كالصاد والطاء، كما أنها في الصيغ الفعلية لا تهتم بالأزمنة الثلاثة وفروعها، وهي الماضي والحاضر والمستقبل، ولذلك نجد في العربية صيغتين للفعل وهما الماضي للحدث المنهي والمضارع للذي لم ينته، ولذلك يصلح للحال والاستقبال. وهناك أدوات تجعله للمستقبل خالصاً من السين، وسوف، ولن، وأدوات أخرى تجعله للماضي مثل: لم([7]).
ويرتبط المضاف والمضاف إليه في اللغات السامية ارتباطاً وثيقاً يكاد يحيلهما في بعض الأحيان كلمة واحدة، كذلك تتفق في صيغ الضمائر وطريقة استعمالها وأسماء العدد والإشارة وفي تركيب الكلام وكثرة المفردات المشتركة بين هذه اللغات(8) .
وليس في اللغات السامية أثر لإدغام كلمة في أخرى حتى تصير الاثنتان كلمة واحدة تدل على معنى مركب من معنى كلمتين مستقلتين كما هي الحال في غير اللغات السامية، وهذا هو سبب ظهور الإعراب في اللغة العربية، وهناك شيء من بقايا الإعراب في أغلب اللغات السامية ففي العبرية[ ] للمفعول به و[ ] لضمير التبعية، وفي السريانية حرف الدال، وفي البابلية كلمة «SUT» لتعيين ضمير التبعية أيضاً([9]).
على أنّ هذه المميزات المشتركة يقابلها مميزات تختص بها كل لغة سامية وتنفرد بها عن غيرها كأداة التعريف مثلاً فهي في العبرية الهاء في أول الكلمة، وفي العربية (أل)، وفي السبئية النون في آخر الكلمة، وفي الأرامية الألف في آخر الكلمة أيضا. وعلامة الجمع كذلك في العبرية ياء وميم، وفي الآرامية ياء ونون، وفي العربية واو ونون في الرفع، وياء ونون في النصب والجر في المذكر، وألف وتاء في المؤنث الذي يقابله في العبرية واو وتاء للمؤنث أيضا. كما يختلف نطق بعض الحروف فيما بينها، فالثاء في العربية قد تكون شيناً في العبرية، والشين في العبرية قد تكون ثاء أو سيناً في العربية، والدال في إحدى اللغات السامية قد تكون ذالاً في لغة أخرى، والصاد قد تكون ضاداً، والعين قد تكون غيناً، وتستعمل العبرية مثلاً حرفين في موضع السين هما السين سامخ والسين الشجرية، وقد يأتيان في الحبشية والعربية شيناً والعكس بالعكس([10]).
احتفظت العربية أكثر من أخواتها الساميات بكثير من الصور الصادقة لعناصر اللغة الأولى مثل الكمية الأصلية من الأصوات الساكنة، وكذلك الحركات القصيرة في المقاطع المفتوحة ولاسيما في وسط الكلمات، وأيضا مثل الفروق النحوية الكثيرة التي أُفْسِدت ـ أن قليلاً أو كثيراً ـ في اللغات السامية الأخرى([11]).
ويقول ولفنسون: إن مقارنة قواعد اللغات السامية يجب أن يبدأ حقاً من العربية إلى اللغة السامية القديمة(الأم)([12]).وهنا يقول أوليري إنه من الضروري أن تكون اللغة العربية هي نقطة البدء لفقه اللغات السامية ([13]).
ويدعم هذا التوجه د. رمضان عبد التواب إذ يقول: " ولا شك أن هناك فوائد كثيرة تعود على الدرس اللغوي من معرفة الدارس باللغات السامية، فإنه فضلاً عما تفيده هذه المعرفة بتاريخ الشعوب السامية وحضاراتها ودياناتها وعاداتها وتقاليدها. تؤدي مقارنة هذه اللغات باللغة العربية إلى استنتاج أحكام لغوية لم تكن تصل إلينا لو اقتصرت دراستنا على العربية فحسب" ([14]).
وقد كانت بدايات التأليف في الدراسات السامية المقارنة على يد بعض اللغويين العرب الأوائل الذين كانوا على معرفة باللغات السامية، بل كان بعضهم يعرف العلاقة بين العربية وبعض هذه اللغات، وقد أثمرت هذه المعرفة عندهم في الدرس اللغوي ومقارنة العربية باللغات السامية. فكان الخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفى سنة 175هـ يعرف الكنعانية إذ قال وهو يعالج مادة (كنع): وكنعان بن سام بن نوح ينتسب إليه الكنعانيون، وكانوا يتكلمون بلغة تضارع العربية([15]).
كما أدرك ابن حزم الأندلسي المتوفى سنة 456هـ علاقة القربى بين العربية والعبرية والسريانية حيث يقول :" إن الذي وقفنا عليه وعلمناه يقيناً أن السريانية والعبرانية والعربية التي هي لغة مضر وربيعة لا لغة حمير؛ واحدة تبدلت بتبدل مساكن أهلها، فحدث فيها جرس كالذي يحدث من الأندلسي، إذا رام نغمة أهل القيروان، ومن القيرواني إذا رام لغة الأندلسي، ومن الخرساني إذا رام نغمتهما، ويستطرد قائلاً " فمن تدبر العربية والعبرانية والسريانية؛ أيقن أن اختلافهما إنّما هو من نحو ما ذكرنا، من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان واختلاف البلدان ومجاورة الأمم، وإنها لغة واحدة في الأصول" ([16]).
ويقول الإمام السهيلي (المتوفى 581هـ) في العلاقة بين العربية والسريانية " وكثيراً ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي أو ما يقاربه في اللفظ "([17]).
وذكر ابن الحاجب في الكافية قولاً بأنّ اسم الفعل (آمين) أصله سرياني، معللاً ذلك بأن وزنه من الأوزان الأعجمية ([18]).
كذلك عَرَف أبو حيّان الأندلسي(المتوفى 754هـ) اللغة الحبشية وأدرك العلاقة بينها وبين العربية، وألف فيها تأليفاً مستقلاًً ([19]).
وللغويين من اليهود مؤلفات في الدراسات السامية المقارنة فقد وقفوا على التقارب بين العربية والعبرية والآرامية واكتشفوا العلاقة بين اللغات، وقد ساعدهم على ذلك إلمامهم بالعربية والآرامية ([20]).
فقد وجدت منذ القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري) دراسات مقارنة قام بها لغويون متخصصون ومعظمها تمّ في المغرب والأندلس على يد لغويين يهود سجلوها باللغة العربية، وأشهرعَمَلين تَمَّا في هذا المجال عملا : "ابن بارون " و" يهودا بن قريش "، وإن وجدت أعمال أخرى أقل قيمة كتلك التي قام بها أبو يوسف القرقساني وداود بن إبراهيم([21]) .
أمّا ابن بارون فكان من يهود أسبانيا، وقد كتب في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي كتابه العظيم " كتاب الموازنة بين اللغة العبرية والعربية " وقد خصص الكتاب للدراسة المقارنة بين اللغتين من جانبي اللغة والنحو، واهتم ببيان أوجه الشبه والخلاف بين العربية والعبرية([22]).
وأما يهودا بن قريش (عاش في أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر) فقد كان أسبق من ابن بارون بنحو قرن من الزمان ويعتبرونه أبا الدراسات السامية المقارنة، وقد ترك ابن قريش عملاً مكتوباً بالعربية قسمه إلى ثلاثة أقسام عالج في قسم منه العلاقة بين العبرية والعربية. وشَبَّه العلاقة بين العبرية والآرامية بفروع الشجرة الواحدة، أو بعروق الجسد الواحد، كما صرح بأن العربية والآرامية ليستا أجنبيتين، وذكر أن الـــعربية والعبرية نتجتا عن أصل واحد وتفرعتا نتيجة الخروج إلى أماكن مختلفة والاختلاط بلغات أخرى، وأصدر حكمه على اللغات الثلاث العبرية والآرامية والعربية بأنها صيغت بالطبيعة بطريقة واحدة([23]).
وفي القرن الحادي عشر الميلادي وضع يهودا بن حيوج (أبو زكريا يحيى) أسس المقارنة الصوتية للغات السامية، وقد عرف العلاقة القريبة التي تربط الآرامية والعبرية([24]). وقد كان تأثره بالتراث اللغوي العربي واضحاً في ثنايا مؤلفه.
وفي العصر الحديث أصبح للدراسة المقارنة منهجها الخاص منذ اقترح السير وليم جونز "W. Jones". هذا المنهج قرب نهاية القرن الثامن عشر، وطبقه من بعده علماء بارزون مـن أمثال " شليجل" Schlegal"، و" راسك" Rask ، و" بوب " Bopp، و " جريم " Grimm([25]).
وقد طبقوا ذلك على اللغات الهندية الأوربية، ثم اتسع نطاق الدرس المقارن عندهم ليشـمل العـربية واللغـات السـامية فيما بعـد، على يد كل من : " نولدكة " و" بروكلمان " و" برجشتراسر" و" رايت "، ثم " موسكاتي " الذي يعد من أشهر من قام بذلك.
وقد اهتم بعض اللغويين المحدثين العرب بالدراسات اللغوية السامية المقارنة على جميع المستويات أو النظم الفرعية للغة، ونعني بذلك مستويات الدرس اللغوي الحديث [الصوتية ـ الصرفية ـ التركيبية ـ الدلالية] متممين بذلك مسـيرة أسـلافهم. ففي مصر برز في هــذا المجال أ. د. السـيد يعـقوب بكر، وأ.د. محمد سالم الجرح، وأ. د. رمضان عبد التــواب وكذلك أ. د. محمود حجازي، و أ. د. عبد الفتاح البركاوي، و أ. د. عمر صابر. وفي الشــام والأردن والعــراق أ. د. يحـيى كمـال، وأ. د. محـمد التـونـجي، وأ.د.إسماعيل عمايره، وأ.د. إبراهيم السامرائي، وأ. د. محمد حسين آل ياسين.
كما ظهر في المغرب العربي العديد من الدراسات اللغوية السامية المقارنة على يد العـديد من الباحـثين منهم : أ. د. أحمد شحلان، و أ. د. محمـد المـدلاوي، وأ. المصطفى حسوني. وفي السعودية والجزيرة العربية لصاحب هذه الورقة جهود متواضعة في هذا المجال منها :
· النصوص المتصلة بسيدنا يوسف في القرآن الكريم والتوراة. دراسة صوتية دلالية مقارنة.
· المطاوعة وبناؤها في اللغات السامية، دراسة لغوية مقارنة.
· أدوات الصلة بين العربية والعبرية. دراسة لغوية مقارنة.
· اللغة العربية والساميات الأصل والتبعية في ضوء الدرس اللغوي المقارن.
· الأصوات العربية والعبرية- دراسة وصفية مقارنة.
إنّ هذه الدراسات اللغوية الحديثة المقارنة بين اللغات السامية وما تتضمنه من نظرة جديدة للدرس اللغوي المقارن وإن تأصلت في العصر الحديث إلاّ أن جذورها تمتد أيضاً إلى تلك البدايات التي نهض بها أوائل اللغويين العرب الأفـذاذ.
------------------------------------
الحواشي: